مازال الصراع في السودان يلقي بظلاله على دول الجوار ومصالح الدول الكبرى، حيث لا يمكن فصل الحرب الدائرة على الساحة السودانية عن كل الصراعات في المنطقة والشرق الأوسط وصراع المصالح والنفوذ في القارة السمراء.
وبحسب كثير من المحللين والخبراء فإن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية تستخدم كل أدواتها في السودان بهدف مقاومة النفوذ الروسي والصيني المتنامي في أفريقيا، ولو على حساب حياة واستقرار الشعب السوداني. حيث لم تدخر واشنطن أي جهد باستثمار جميع أدواتها بالسودان لتحقيق مصالحها من شخصيات سياسية أو ارسال مرتزقة أو التلاعب بملف المنظمات الإنسانية والاستثمار به.
الأهمية الاستراتيجية للسودان
تظافر عددٌ من العوامل والمعطيات على زيادة الأهمية الاستراتيجية لبلدٍ عربي وأفريقي مثل السودان، وعززت مكانته في خضم مساعي القوى الدولية المتنافسة لتحقيق العديد من أهدافها ومصالحها الحيوية في منطقتي البحر الأحمر وشرق أفريقيا ولعل أهم هذه العوامل يتمثل في الآتي:
أولاً، موقع السودان الاستراتيجي الواقع في الجزء الشمالي الشرقي للقارة الأفريقية دوراً أساسياً في ترسيخ مكانته كجسر استراتيجي، والنظر إليه بوصفه المدخل الأنسب لأفريقيا جنوب الصحراء عبر بوابة البحر الأحمر، واعتباره حلقة وصل تربط بين شمال القارة وجنوبها، وبوابة مركزية لشرق ووسط وغرب القارة الأفريقية، خاصة أنه يُجاور دولاً مهمة عديدة هي مصر وليبيا وإثيوبيا وجنوب السودان وتشاد وأفريقيا الوسطى.
ثانياً، يُطِل السودان، الذي يعد ثاني أكبر دولة من حيث المساحة في أفريقيا بعد انفصال الجنوب في 2011، على البحر الأحمر بسواحل يبلغ طولها نحو 720 كيلومتر، ويمتلك منفذاً بحرياً استراتيجياً هو ميناء بورتسودان، الذي يستمد أهميته من كونه المنفذ البحري الوحيد للسودان، وتمر عبره حركة التجارة والملاحة البحرية من وإلى البلاد. كما أنه يتوسط ساحل البحر الأحمر، أي أنه يقع بالقرب من نقاط الاختناق الاستراتيجية في التجارة الدولية (قناة السويس ومضيق باب المندب).
ثالثاً، يتمتع السودان بوفرة ملحوظة في الموارد والثروات الطبيعية، ومن أبرزها اليورانيوم والذهب والكوبالت والنفط وغيرها، إذ يمتلك السودان ثالث أكبر احتياطي في العالم من اليورانيوم، واحتل المرتبة الثالثة في إنتاج الذهب على الصعيد الأفريقي خلال السنوات الخمس الماضية.
وبالتالي، يمكن القول إن هناك عدداً من المصالح والمحفزات، المرحلية والاستراتيجية، وقفت خلف زيادة التوجُّه الدولي نحو السودان في الفترة الأخيرة. هذا وفي ظل التطورات السياسية والعسكرية المتلاحقة في السودان، تبرز الحرب القائمة بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني كمحطة هامة تستحق التحليل والاهتمام. تتجلى هذه الصراعات في سلسلة من الأحداث المتصاعدة التي تشهدها البلاد، والتي تعكس تنافساً شديداً على السلطة والتأثير في إدارة مستقبل السودان.
ترسيخ العلاقات مع روسيا
على وقع هذه الحرب، يتحرك قادة الحكومة السودانية لترسيخ العلاقات مع روسيا، وسط اعتراضات من قبل مكونات سياسية سودانية، خاصة تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” المتهمة من النيابة العامة بالسودان والحاصلة على الدعم الأمريكي في المنطقة.
إلى جانب ذلك، أعلن الفريق أول ركن ياسر العطا، مساعد القائد العام للقوات المسلحة وعضو مجلس السيادة السوداني، بأنه لا يعارض منح روسيا قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، مشيراً إلى اتفاق مع روسيا للتعاون اللوجيستي مقابل تزويد الجيش السوداني بالأسلحة.
وفي سياق ذو صلة، أكد السفير السوداني لدى روسيا محمد سراج في الأيام القليلة الماضية بتصريحات صحفية لوكالة “سبوتنيك” الروسية التزام السودان ببناء قاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر، موضحاً أنّ المشكلة التي يواجهها المشروع “إجرائية فقط”، وأنّ من واجب الطرفين تنفيذه.
وقال سراج، أنّ الخرطوم لن تتخلى عن التزاماتها ببناء قاعدة بحرية روسية في البحر الأحمر، موضحاً أنّ القاعدة تمثّل “نقطة دعم لوجستي في البحر الأحمر، كما ان البلدين وقّعا على الاتفاقية التي سيتم بناؤها بموجبها، ما يعني أنّ من واجبهما تنفيذ المشروع”، معرباً عن أمله في “تعزيز أكثر لعلاقات البلدين”.
في السياق ذاته، كان نائب رئيس مجلس السيادة السوداني مالك عقّار اير، قد قام بزيارة لروسيا في الثالث من يونيو الحالي على رأس وفد رفيع المستوى يضم وزراء المالية والخارجية والمعادن. وتأتي زيارة عقار وسط وعود سودانية مستمرة بالالتزام باتفاقية إقامة قاعدة بحرية روسية على شواطئ البحر الأحمر في بورتسودان.
وكان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أكد، عقب زيارة للسودان، أنّ الاتفاق بين موسكو والخرطوم بشأن إنشاء مركز لوجستي للبحرية الروسية في السودان، يقع حالياً في مرحلة التصديق.
الرد الأمريكي
في ظل كل ما سبق تصاعدت المخاوف الأمريكية بشكل كبير، بسبب التقارب الكبير بين مجلس السيادة وروسيا واحتمال حصول الأخيرة على قاعدة عسكرية على البحر الأحمر. وأثار هذا التقارب التخوفات الأميركية، التي عبر عنها اتصال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلنكين، قبل بضعة ايام بقائد الجيش السوداني طالبًا منه الذهاب إلى منبر جدة واستئناف المفاوضات، وبين نائب البرهان في مجلس السيادة مالك عقار وكشف ما دار في الاتصال الهاتفي بين البرهان وبلنكين، وبين رفض حكومة البرهان الذهاب إلى منبر جدة، كما أن ياسر العطا خرج وأيد ما ذهب إليه عقار قائلًا إن ما قاله يمثل رأي الدولة وأضاف “نقول له جيشك جاهز”.
وبحسب الباحث والخبير في الشؤون السودانية عثمان ميرغني فإن المخاوف الأمريكية تتمثل بقلق واشنطن من خسارة نفوذها في السودان في حال تحالف البرهان مع الروس، على حساب سيطرة النفوذ الروسي، إلى جانب منافسة الروس للأمريكيين على النفوذ في البحر الأحمر، وهو ما تعتبره واشنطن تهديد لها.
أثيوبيا.. عنوان الخطة الأمريكية للتعامل مع النفوذ الروسي
بحسب مصدر دبلوماسي رفيع المستوى، ترد الولايات المتحدة على تزايد النفوذ الروسي في المنطقة، باستخدام نفوذها على رئيس وزراء جمهورية إثيوبيا “ابي احمد” لارسال قوات مرتزقة أثيوبية لدعم قوات الدعم السريع لاسقاط حكم البرهان بالقوة بعد الفشل السياسي الأمريكي في المنطقة، في صفقة سرية بين البيت الابيض وأديس أبابا. وبحسب نفس المصدر، تتضمن الصفقة الأمريكية الأثيوبية شرطين أثيوبيين أساسيين أولهما حصول أبي أحمد على دعم أميركي في قضية انفصال أرض الصومال، التي تحاول إثيوبيا من خلالها الوصول إلى خليج عدن، وثانيهما إستعادة السيطرة الأثيوبية على أراضي الفشقة المتنازع عليها.
وفي المقابل، سيقدم أبي أحمد الدعم لقوات الدعم السريع بالمرتزقة والسلاح وإنشاء طرق لوجيستية لتمديد قوات الدعم السريع بالسلاح اللازم لأسقاط حكم البرهان.
كما عرض أبي أحمد بالتعاون مع موسى بيهي عبدي رئيس أرض الصومال الإنفصالية، بتأمين الملاحة في البحر الأحمر ما يجلعه دافع للبيت الابيض بجعل أرض الصومال كـ”تايوان” في أفريقيا.
وقال رئيس أرض الصومال موسى بيهي عبدي لصحيفة فايننشال تايمز إن اتفاق إثيوبيا “سيسمح لأرض الصومال بدعم الجهود الدولية لتأمين حرية الملاحة في خليج عدن والبحر الأحمر”، حيث تعرضت السفن لهجمات متكررة في الأشهر الأخيرة من المتمردين الحوثيين.
وفي هذا الصدد، يقول الباحث في الشؤون الأفريقية الدكتور عبد الرحمن كان “إن فشل عبدلله حمدوك ممثل الغرب وواشنطن في السودان لعدة مرات بإحداث تغيير سياسي في المشهد السوداني بما يناسب المصالح الأمريكية، إلى جانب توجه البرهان والجيش السوداني شرقاً للتحالف مع موسكو، دفع بواشنطن للتفكير بخطة بديلة لإزاحة البرهان عن المشهد والدفع بشخصية أخرى لسدة الحكم تمثل مصالح واشنطن”.
وبحسب كان، فقد بدأت واشنطن باستخدام نفوذها على الجارة الأثيوبية، من خلال اقناع رئيس البلاد أبي أحمد بإرسال قوات أثيوبية ومرتزقة لمساندة قوات “الدعم السريع” والدفع بهم نحو الانتصار على قوات الجيش السوداني ومن ثم إسقاط حكم البرهان بالقوة بعد فشل الخطط السياسية البديلة.
المصالح الأثيوبية
وأكد كان بأن، ما يدفع أبي أحمد للقبول بالطلبات الأمريكية هي المصالح الكثيرة التي يمكن أن تحققها أثيوبيا من خلال هذه الاتفاقية مع واشنطن. ويأتي في مقدمتها اعتراف واشنطن بانفصال إقليم أرض الصومال، الذي يحتل موقع استراتيجي هام جداً والذي لطالما حلمت وسعت أثيوبيا لانفصاله، بهدف السيطرة عليه والحصول على ميناء زويلع الصومالي الهام جداً، وبالتالي منفذ بحري، بحكم أن أثيوبيا لا تملك أي منفذ على البحر أو المحيط.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن أثيوبيا ستسعى للسيطرة مساحات أكبر من نهر النيل واستعادة السيطرة على مدينة “الفشقة” المتنازع عليها على الحدود السودانية.
وما يؤكد فرضية الدكتور عبد الرحمن كان، حول رغبة الرئيس الأثيوبي الشديدة في السيطرة على أرض الصومال وميناء زويلع، هي المعلومات التي أوردتها وسائل إعلامية كثيرة في وقت سابق، عن العرض الذي قدمه أبي أحمد لواشنطن حول استعداده لفتح جبهة ضد الحوثيين في اليمن، وحتى ارسال قوات لقتالهم والاستعداد لحماية الملاحة الإسرائيلية، وكل ذلك مقابل حصوله على اعتراف دولي رسمي بشرعية سيطرة أثيوبيا على ميناء زويلع وإقليم أرض الصومال.
وتعليقاً على هذه المعلومات، أكد الباحث في مركز صنعاء للدراسات الدكتور ماجد المذحجي أن الرئيس الأثيوبي استغرق كثيراً في خياله، وذهب بعيداً عن الواقع، لأنه من الصعب جداً على القوات الأثيوبية أن تحسم الصراع في البحر الأحمر لأسباب جغرافية وعسكرية كثيرة.
ومن الجدير بالذكر أن الجانبين الروسي والسوداني وقّعا، عام 2019، اتفاقية بشأن إنشاء مركز للدعم اللوجستي للبحرية الروسية في بورتسودان، وهو من المفترض أن يستضيف ما يصل إلى 300 جندي روسي، ويزوّد سفناً تابعةً له بالوقود.
ومن الواضح أن واشنطن أخذت في تكثيف تحركاتها تجاه السودان، بهدف كسب مزيد من النفوذ الذي يعزز وجودها في المنطقة، ويدفع إلى تقليص حضور مُنافِسَيْها الآخذ في التنامي.