روسيا وجنوب أفريقيا: علاقات متينة رغم العقبات

روسيا وجنوب أفريقيا .. دولتان هامتان في مجموعة البريكس، ولذلك تحظى العلاقة بينهما باهتمام كبير، وعلى ضوء ذلك نشر المعهد الجنوب أفريقي للشؤون الدولية دراسة بعنوان:

هل تستطيع التحالفات القديمة الصمود في وجه الحقائق الجديدة في العلاقات بين روسيا وجنوب أفريقيا؟

بدأت الدراسة باستعراض عدد من الوقائع التي كان من الممكن أن تشكل عائقاً امام تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، وفي مقدمتها ما حصل في العام الماضي 2023، حيث واجهت جنوب أفريقيا تحدياً دبلوماسياً كبيراً بصفتها الدولة المستضيفة لقمة البريكس، إذ أن جنوب أفريقيا عضو في المحكمة الجنائية الدولية، والتي أصدرت مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعلى أساس ذلك كان يتوجب على دولة جنوب أفريقيا اعتقال بوتين ان هو حضر الإجتماع، الا أن الأمر لم يحصل اذ أن بوتين لم يشارك شخصياً في القيمة، لكن هذا الاحتمال لوحده يظهر بوضوح تعقيدات العلاقة الحالية بين روسيا وجنوب أفريقيا.

شدد المعهد في دراسته على عمق العلاقات بين موسكو وبريتوريا، لكن مع الإشارة الى المشاكل التي قد توجه هذه العلاقة بسبب تعرض جنوب أفريقيا للضغوطات من قبل الدول الغربية، والتي تجمعها علاقات أيضا، بالإضافة الى التحديات الاقتصادية والديناميكيات العالمية المتغيرة.

أشار المعهد الى أنه مؤخراً حصلت محاولة هامة لحل كافة الإشكالات في اللاعقات بين البلدين، وذلك عندما نظم المعهد حواراً خلف الأبواب المغلقة بين خبراء روس وجنوب أفريقيين حول العلاقات الثنائية، وحينها تطرقت النقاشات إلى العديد من المواضيع التي تحتاج بشكل عاجل إلى تبادل وجهات النظر، مثل الصراع بين روسيا وأوكرانيا والتوترات في منطقة الساحل وتوسع البريكس.

وفي عصر المقاطعات الأكاديمية والتوترات المتزايدة والضغوطات والعقوبات الإقتصادية وغيرها، فإن مثل هذه المناقشات الصريحة لها أهمية هائلة، اذ أن الحوار بين روسيا وجنوب أفريقيا يوفر منصة للمشاركة المباشرة، مما يضمن أن تكون قرارات السياسة الخارجية لكلا البلدين مستنيرة برؤى مباشرة بدلاً من تقييمات طرف ثالث قد تكون غير دقيقة بأفضل حال، أو عبارة عن محاولات خبيثة لضرب العلاقات الثنائية التي بلا شك تزعج العديد من الدول في العالم.

وبحسب المعهد ودراساته، فلا تزال الروابط التاريخية موجودة بين البلدين، وبدأت في القرن الماضي وكانت عبارة عن الدعم السوفييتي الكبير للنضال ضد الفصل العنصري، وهو أمر مازال حاضراً في وجدان الشكان المحليين، وخصوصاً كبار السن منهم. ومع ذلك، فإن هذا الإرث التاريخي بدأ يتلاشى تدريجياً مع ظهور مجموعة جديدة من صناع القرار في كلا البلدين، والذين لا يملكون تلك الروابط الشخصية والسياسية والعاطفية في كثير من الأحيان.

لكن نتيجة للتغيرات الكبيرة في السياسة العالمية وانتهاء الحرب الباردة، فلم تعد روسيا تستطيع الإعتماد على الخطاب المناهض للاستعمار فقط، والذي كان سائدا ابان الإتحاد السوفييتي السابق، بل تحتاج لسياسة وسبل جديدة تأخذ بعين الإعتبار التغييرات في الإقتصاد العالمي وموقع كل من البلدين وكذلك الحرص على جعل المصالح المشتركة قاعدة أساسية لبناء علاقاتها ليس مع جنوب أفريقيا فقط، انما مع عدد كبير من دول القارة السمراء.

وبحسب المعهد الجنوب أفريقي للشؤون الدولية فقد كانت للأزمة في اوكرانيا انعكاسات على سياسة جنوب أفريقياً، فكان موقفها الرسمي الحكومي متوازناً قدر الإمكان، وكأنما الحكومة في جنوب أفريقيا حاولت السير على حبل مشدود، داعية إلى الحوار والحل السلمي للأزمة، ولكن في نفس الوقت كانت تمتنع عن إدانة روسيا وترفض الإنضمام كلياً الى فرض العقوبات التي يفرضها الغرب على روسيا، وهذا التوازن، رغم أنه من الطبيعي الا يرضي تماماً أياً من الأطراف، الا انه، وبحسب المعهد، يثبت مرة أخرى استقلالية القرار السياسي والسيادي في دولة جنوب الأفريقيا، وهو الأمر الذي تبدي روسيا احترامها له، على عكس الدول الغربية والولايات المتحدة التي تضغط على جنوب أفريقيا للإنضمام الى تحالف دولي ضد روسيا.

ورغم ذلك يرى مراقبون أن روسيا كانت تتوقع المزيد من جنوب أفريقيا، وكانت تتوقع أن يكون موقفها أقرب لروسيا، ولعل زيارة بوتين الأخيرة الى منغوليا، والتي أيضاً عضو في محكمة الجنايات الدولية، خير مثال على ذلك، فلم يعتقل بوتين هناك، ولم يصبه أي مكروه، وبالتالي يتساءل المعهد عما اذا كان من الأفضل حينها استقبال بوتين في جنوب أفريقيا أثناء قمة البريكس وتجاهل محكمة الجناية الدولية ومذكراتها، وقد ذكّر المعهد بزيارة رئيس السودان السابق عمر البشير عام 2015 إلى قمة الاتحاد الأفريقي في جوهانسبرغ، حيث لم يتم إعتقاله حينها.

تتميز العلاقة بين روسيا وجنوب أفريقيا بالبعد الجغرافي والعلاقات الاقتصادية المحدودة، مما يجعلها علاقات ضحلة نسبيا على الرغم من الروابط التاريخية العميقة، وعلى مر السنين، كان حجم التجارة دائما منخفض نسبيا مقارنة بالنوايا السياسية الحسنة، كما خلقت العقوبات حواجز جديدة. في عام 2023، صدرت جنوب أفريقيا ما قيمته 282 مليون دولار، وكانت معظم الصادرات من الحمضيات، إلى روسيا، واستوردت بالمقابل ما قيمته 522 مليون دولار، وفي مقدمة الواردات كانت الأسمدة والنفط. ولكن هذه الأرقام صغيرة جداً نسبياً.

وكان للعقوبات الغربية تأثيرها، ففصل روسيا من منظومة الدفع البنكية سويفت، والقدرة المحدودة للبلاد على الانخراط في التجارة وخطر العقوبات الثانوية كلها تشكل تحدياً كبيراً للعلاقات الاقتصادية بين روسيا وجنوب أفريقيا، مما يعني أنه بات مطلوباً من قيادتي البلدين البحث عن طرق جديدة للتعاون الإقتصادي بشكل لا يكون له تداعيات سلبية كثيرة. ويضاف الى ذلك زيادة الولايات المتحدة لنشاطها في القارة الأفريقية منذ العام 2022، سعياً منها لإبعاد الدول الأفريقية عن روسيا، مما يجعل روسيا بحاجة الى المزيد من الجاذبية وتقديم ما هو بديل ويحقق المصالح للدول الأفريقية، ان هي أرادت من هذه الدول أن تكون في صفها أو على الحياد كحد أدنى.

أما بما يتعلق بمستقبل العلاقات بين روسيا وجنوب أفريقيا فيرى المعهد الجنوب أفريقي للشؤون الدولية أن هناك العديد من العوامل التي ستشكل مسار العلاقات بين روسيا وجنوب أفريقيا:

أولاً، من المرجح أن يكون التوتر بين القيم والمصالح جانبًا بالغ الأهمية، حيث غالباً هناك تعارض كبير بين التزام جنوب أفريقيا بحقوق الإنسان والنظام الدولي القائم على القواعد من جهة مع نهج السياسة الواقعية الروسي. ومن المرجح بحسب المعهد أن يشكل سد هذه الفجوة الإيديولوجية مع الحفاظ على التعاون البراغماتي وموازنة علاقاتها مع الغرب تحديياً كبيراً لجنوب أفريقيا.

ثانيًا، ستؤثر الضرورات الاجتماعية والاقتصادية بشكل متزايد على السياسة الخارجية لجنوب أفريقيا في ظل حكومة الوحدة الوطنية. ومن المرجح أن تلعب القضايا المحلية مثل البطالة والفقر وعدم المساواة دوراً بارزهاً وهاماً في تشكيل علاقاتها الدولية، أي أن هذه التحديات وفرص حلًها بمساعدة الأطراف الخارجية لابد وأن تشكل أساساً لتعامل وعلاقات جنوب أفريقيا مع روسيا والقوى العالمية الأخرى.

ثالثا، لابد أن تلتزم روسيا باحترام سيادة الدول في أفريقيا، وهو أمر تميزت به السياسة الروسية خلال العقد الفائت، وبالتالي مهما حصلت هناك من اصطفافات دولية، الا تحاول روسيا جر أفريقيا الى حرب باردة جديدة، بل التعامل مع جنوب أفريقيا والقارة ككل كلاعب مستقل، مما سيعني حصولها على تأييد شعبي في مجتمعات هذه الدول واحترام في قبل الحكومات، خصوصاً أنها ترفع شعار محاربة الاستعمار الغربي.

ورابعاً، سوف تستمر ديناميكيات العلاقات الدولية، وخاصة العلاقات بين الجهات الفاعلة الرئيسية مثل الولايات المتحدة والصين، في تشكيل سياق العلاقات بين روسيا وجنوب أفريقيا. وينبغي على جنوب أفريقيا وغيرها من الدول الأفريقية أن تسعى إلى تجنب حالة تُستخدم فيها كبيادق في هذه التوترات الجيوسياسية الكبرى.

 

المصدر:

The South African Institute of International Affairs

شاهد أيضاً

سوريا بين فوضى السلاح وتحديات المصالحة .. هل ينجح أحمد الشرع في توحيد الصفوف؟

تؤكد الأحداث الأخيرة في الساحل السوري أن الرئيس أحمد الشرع وإدارته الجديدة لم يتمكنوا بعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *