بدأت الولايات المتحدة محاولات العودة لبسط نفوذها في عدد من دول القارة الأفريقية، وذلك بعدما ظلت بعيدة إلى حد كبير عن المنطقة لسنوات، ووجدت نفسها مضطرة للتصادم مع منافس جديد وقوي على الساحة وهي روسيا، والتي خلال السنوات الأخيرة نجحت في كسب تعاطف شعبي أفريقي كبير وكسب صداقات جديدة في القارة، وذلك اعتماداً على المصالح المتبادلة وكذلك على الدبلوماسية الشعبية، فروسيا على عكس الدول الغربية، تولي أهمية كبرى للعاقات الشعبية بين البلدين وتحترم ثقافات وشعوب الدول ولا تتدخل في السياسات الداخلية، مما جعل العديد من دول العالم وفي مقدمتها دول أفريقيا ترى في روسيا شريكاً أفضل من الغرب.
وهذا ما أشارت اليه المحللة السياسية والاستراتيجية سام ميدينيك في اسوشيتيد بريس، فعلى ما يبدو فقد تحسست الدول الغربية الخطر الروسي في أفريقياً، وبعد انحسار الدور الفرنسي، يحاول العم سام العودة بقوة على الساحة، اذ يلقي المسؤولون الأميركيون باللوم على روسيا بما يخص نمو المشاعر المعادية لأميركا في المنطقة ويقولون إنهم يحاولون تغيير الرواية الروسية، رغم عدم وجود استراتيجية واضحة ومعلنة حول كيفية القيام بذلك.
ولقد اعتبر صامويل راماني من المعهد الملكي للخدمات المتحدة، وهو مركز أبحاث دفاعي وأمني أنه إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من استعادة موطئ قدم على الساحة الأفريقية فقد يمنح ذلك روسيا نفوذاً اقتصادياً وسياسياً أكبر مع مرور الوقت، وأنه على الولايات المتحدة التصرف بسرعة، وفي المقابل يرى راماني، أن روسيا لن تتراجع بسهولة، فإذا خسرت روسيا جمهورية إفريقيا الوسطى مثلاً، فقد يكون هذا بداية لظهور تأثير الدومينو في بلدان أفريقية أخرى تخسر روسيا نفوذها فيها، وهو الامر الذي لن تسمح به القيادة الروسية.
في السنوات الأخيرة، برزت روسيا كشريك أمني مفضل لعدد متزايد من الحكومات في المنطقة، مما أدى إلى إزاحة الحلفاء التقليديين مثل فرنسا والولايات المتحدة. وقد وسعت موسكو تعاونها العسكري بشكل نشط من خلال العلاقات الرسمية وكذلك من خلال دور الشركات العسكرية الخاصة، مثل فاغنر وغيرها. والدول الافريقية تستفيد من التواجد الروسي، خصوصاً في الجانب الامني حيث ضرورة حماية البلاد من الانقلابات العسكرية الموالية للغرب، أو حتى التصدي للجماعات المتمردة وفي مقدمتها الجماعات الارهابية الإسلامية. واليوم لروسيا تواجد عسكري في عدد من الدول الأفريقية، وما يميز هذا التواجد أنه بدأ يأخذ طابعاً أكثر شفافيةً ورسميةً على عكل التواجد الغربي.
والتفسير الواضح والمهم للفرق الكبير بين التعاطي الروسي والغربي يكمن في المشاعر المتباينة في المجتمعات والدول الأفريقية تجاه روسيا من جهة، والغرب من جهة أخرى، فالأفريقيون يرون في فرنسا وبريطانيا وحتى الولايات المتحدة كقوىً استعمارية قديمة لم تتخل عن سياساتها السابقة، مما يجعل دول الغرب تضطر لأن تلعب لعبتها من وراء ستار وبشكل غير رسمي، او باتفاقات خلف الكواليس لكي لا تثير غضب الشعوب، بينما روسيا تتمتع بسمعة شعبية جيدة في مختلف المجتمعات، وبالتالي تستطيع التصريح علناً عن علاقاتها، والحكومات الأفريقية لا تخاف من الإعلان عن أي تعاون مع روسيا، سواء تعاون اقتصادي أو حتى عسكري.
فمثلاً كانت جمهورية إفريقيا الوسطى واحدة من الأماكن الأولى التي دخلها المقاتلون الروس، حيث كانت البلاد في صراع منذ عام 2013، عندما استولى المتمردون الاسلاميون في الغالب على السلطة وأجبروا الرئيس على ترك منصبه. غادرت ست من الجماعات المسلحة الـ 14 التي وقعت على اتفاق سلام عام 2019 الاتفاقية لاحقًا. وقد أشاد السكان المحليون والحكومة الرسمية بقوات فاغنر الروسية التي ساهمت وبشكل كبير في التصدي للمتمردين الذين حاولوا الاستيلاء على العاصمة بانغي في عام 2021. وسرعان ما توسع التواجد الروسي إلى دول أخرى مثل بوركينا فاسو والنيجر، ولديهم طموحات لمزيد من النمو والانتشار هناك. واليوم تعمل روسيا على بناء قاعدة عسكرية لها على بعد نحو 80 كيلومتراً من بانغي. وقال ألكسندر بيكانتوف، سفير روسيا لدى جمهورية أفريقيا الوسطى، إن القاعدة ستحسن من حالة الأمن في البلاد. ومن جهته قال فيديل غواندجيكا، مستشار رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى فوستين أركانج تواديرا، إن القاعدة تهدف إلى احتواء 10 آلاف مقاتل بحلول العام 2030 لكي تكون منطلقاً للتعاون والعمليات الروسية في عدد من الدول الأفريقية.
كانت الولايات المتحدة تحاول الضغط على جمهورية أفريقيا الوسطى من أجل إيجاد بديل لفاغنر لسنوات، وسعى اجتماع خاص عقد في ديسمبر كانون الأول 2022 إلى إيجاد سبل لتحسين الأمن بدون الخدمات الروسية، لكنه لم يسفر عن تقدم ملموس يذكر، وذلك وفقاً لكلام مسؤول أمريكي نقلته وكالة اسوشيتيد برس الاميركية، فالمصدر كان مطلعاً على المحادثات وتحدث بشرط عدم الكشف عن هويته بسبب خصوصية المناقشات الجارية، وقال: “لم نتجاوز أبداً خطوات بناء الثقة، ولم نستطع الإتفاق على الخطوات المتعلقة بكيفية استبدال قوات فاغنر الروسية.”
لكن على ما يبدو فهذا لم يمنع الولايات المتحدة عن بذل المزيد من الجهود لإعادة الدخول الى أفريقيا وربما من بوابات أخرى وأسايب أكثر خبثاً، فقد نقلت وكالة اسوشيتيد برس الأميركية عن شون ماكفيت، وهو عميل أميركي سابق في أفريقيا ومؤلف كتاب “القواعد الجديدة للحرب قوله أن الولايات المتحدة بدأت تزيد من استخدام الشركات العسكرية الخاصة في أفريقيا وذلك من أجل تقليص تواجد القوات الأميركية على الأرض في أفريقيا، وأصبحت تعتمد على شركات عشركية مثل يتعين على شركات مثل بانكروفت وغيرها.
وهذه التصريحات الأميركية يمكن اعتبارها بمثابة اعتراف غير مباشر بأن الولايات المتحدة تضطر لنشر نفوذها بشكل غير رسمي ومن وراء شركات عسكرية خاصة وواجهات أخرة، بدلاً من التعاون بشكل رسمي على غرار السياسة الروسية، مما يثبت مرة أخرى سوء سمعة الولايات المتحدة في جمهورية أفريقيا الوسطى وغيرها من الدول الافريقية، كما ان حال الدول الغربية الاخرى كفرنسا وبريطانيا ليش بأفضل على الإطلاق. بينما تتمتع روسيا بترحيب شعبي أفريقي واسع مما يسمح للحكومات الأفرقية فتح أبواب التعاون الرسمي معها دون خجل أو تردد.
وردا على أسئلة وكالة أسوشيتد برس، قال مسؤول الأميركي الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته إن الشركة تستخدم متعاقدين من القطاع الخاص في أفريقيا لمساعدة البلدان على العمل بشكل أكثر فعالية، مع إشراف الحكومة الأميركية لضمان المساءلة. وقال المسؤول إن وزارة الخارجية أشرفت على عمل بانكروفت في الصومال ولكن ليس في جمهورية أفريقيا الوسطى أو في أي مكان آخر.
أي أن الشركات العسكرية الخاصة الاميركية لا تعمل بمعزل عن توجيهات وتعليمات الحكومة الأميركية، فهمي مجرد واجهة للمصالح القومية الاميركية. فشركة بانكروفت مثلاً التي تتخذ من واشنطن مقرا لها هي منظمة غير ربحية تعمل في تسع دول – خمسة منها في أفريقيا. وأطول وجود لها هو في الصومال، حيث تعمل منذ أكثر من 15 عاما، جزئيا لتدريب القوات لمحاربة تنظيم الشباب المسلحة الإسلامية الإرهابية. وكانت مشاركة بانكروفت في جمهورية أفريقيا الوسطى محاطة بالسرية منذ ظهور شائعات على وجودها في الخريف الماضي. وتقول جماعات حقوق الإنسان إن الافتقار إلى الشفافية بشأن عمليات بانكروفت أدى إلى تعزيز أجواء إنعدام الثقة.
ولكن مشاعر إنعدام الثقة هذه سرعان ما تحولت الى توتر حقيقي في العلاقات، فلقد نقلت وكالة اسوشيتيد برس عن دبلوماسي تعامل مع الجهات الرسمية في جمهورية أفريقيا الوسطى شريطة عدم الكشف عن هويته لأنه لم يُسمح له بالتحدث إلى الصحفيين إن العديد من المواطنين الأميركيين اعتقلوا وتمت مصادرة جوازات سفرهم في ألإريقيا الوسطى. واندلعت احتجاجات نادرة مناهضة لأميركا خارج السفارة الأميركية في بانغي، وشكل الشباب المحليون لجنة للتحقيق في الأنشطة الأميركية ولمراقبة تحركات بانكروفت.
وفي حين تتنافس الولايات المتحدة وروسيا على السلطة، تقول الحكومات الأفريقية إنها تريد اتخاذ خياراتها بنفسها. وقال جاك مارغولين، الخبير في الشركات العسكرية الخاصة، إن مسؤولين من جمهورية أفريقيا الوسطى تواصلوا مع شركة بانكروفت العسكرية الخاصة الاميركية، لكي ينقوا رسالة مفادها أن التواجد الروسي جاء بناء على طلب رسمي وأنهم كحكومة لديهم كامل السيادة والحرية في اختيار شركائهم. أما على المستوى الشعبي فبالنسبة للكثيرين، كان يفغيني بريغوجين بطلاً قومياً، واليوم هناك نصب تذكاري له وللمقاتلين الروس في وسط العاصمة بانغي، ويأتي الناس بكل حرية وعفوية ويضعون الزهور احتراماً له، حتى بعد عام من وفاته.
مترجم عن موقع أسوشيتيد بريس