أرث بايدن في القارة الاميركية

نشر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) دراسة هامة عن أرث الرئيس الأميركي جوزف بايدن من حيث سياسته على الساحة الأفريقية، وقد ورد في الدراسة التي تم نشرها حديثاُ الى أنه من المرجح أن يتم قياس إرث بايدن على أساس مشاعره وتطلعاته لأفريقيا كما عبر عنها في استراتيجيته لأفريقيا لعام 2022.

حيث وضعت هذه الوثيقة لأول مرة رؤية حديثة واستراتيجية وشاملة لأفريقيا، كان المحور المركزي لها هو أنه بحلول عام 2050، ستكون أفريقيا المنطقة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم، ومصدراً للمعادن اللازمة لتشغيل العالم والاقتصاد الحديثين، وبوزن تصويتي كافٍ في المؤسسات العالمية لإعطاء القارة صوتًا مهمًا في صنع القرار العالمي.

ويزعم بايدن أن هذه الحقائق تعني أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تهميش أفريقيا أو اعتبارها كتلة ثانوية، ولكن بدلاً من ذلك، تزعم الاستراتيجية بقوة وبشكل مقنع أنه أينما يتم اتخاذ القرارات ذات التأثير العالمي، يجب سماع الأصوات الأفريقية.

وبحسب الدراسة يبدو هذا جيدًا، نظرياً، لكن مع بعض التشكيك:

“التحدي مع مثل هذا النهج الطموح كان دائمًا في التنفيذ، لكن في هذا المجال فشلت إدارة بايدن في تحقيق خطابها الخاص. لا تكمن مشكلة أفريقيا في أن الولايات المتحدة لم ترها كقارة مهمة للمستقبل؛ بل إن الولايات المتحدة لا تراها الا كذلك من منطلق المصالح الاميركية الخاصة. وما لم يؤثر ما يحدث في أفريقيا على مصالح الأمن القومي الحالية للولايات المتحدة، فإن وعد استراتيجية بايدن سيظل مجرد وعد”.

أي هو اعتراف صريح بأن الحديث عن أهمية القارة مستقبلاً لن يتحول الى مواقف اميركية على الأرض ما لم يكن ذلك يصب أولاً في مصلحة الولايات المتحدة.

في قمة زعماء الولايات المتحدة وأفريقيا التي عقدها بايدن في ديسمبر/كانون الأول 2022، أدلى الرئيس بتصريح جريء مفاده أنه “مع أفريقيا بالكامل”؛ وهو تصريح شعبوي وكرره بايدن كثيراً خلال السنوات الماضية، لكن العديد من الأفارقة يعتبرونه خطابًا فارغًا إلى حد كبير بعد عامين تقريبًا.

وتشير الدراسة الى عدد من الوقائع التي تتعارض مع التصريحات الاميركية، ولو انها شكلية لكن لها أثر هام على العلاقات، خصوصاً من وجهة نظر الدول الأفريقية ومجتمعاتها حيث للمظاهر الفردية والقادة أهمية كبيرة، ففي السنوات الأربع التي قضاها في منصبه تقريبًا، استضاف الرئيس بايدن عددًا أقل من المسؤولين الأفارقة في زيارات المكتب البيضاوي. وهو يجري مكالمات هاتفية مع القادة الأفارقة بنفس التردد. ودائماً كان الأمر الأكثر إزعاجًا للأفارقة هو الافتقار إلى الاجتماعات الفردية بين الرئيس بايدن ورؤساء الدول الأفريقية في قمة الزعماء، حيث اشتكى بعضهم من “عبور المحيط للقدوم إلى واشنطن” فقط ليتم “تحميلهم في حافلات مثل أطفال المدارس” ثم عدم عرض صورة خاصة لهم أو مصافحة الرئيس الأميركي، وهي مجاملة دبلوماسية مُنحت لهم في قمم ثنائية أخرى مع الصين وروسيا.

أيضاً أشار التقرير الى فشل بايدن في تحقيق وعوده بالسفر الى أفريقيا:

“فبعد أن وعد بايدن الزعماء الأفارقة مراراً وتكراراً بأنه سيسافر إلى القارة، في أعقاب الصراع في غزة العام الماضي، ألغى البيت الأبيض الزيارة بهدوء، دون ضجة كبيرة وبأقل قدر من التفسير. ولكن في أعقاب انسحابه من السباق الرئاسي، أصبح لدى بايدن الوقت الآن لتصحيح هذا الإهمال وأعلن عن رحلة منظمة على عجل إلى أنغولا من 13 إلى 15 أكتوبر/تشرين الأول. ولكن من عجيب المفارقات أن اختيار الإدارة لأنغولا يكشف عن سياسة أفريقية لم ترق إلى مستوى طموح استراتيجيتها، ويثبت أن التفكير الأميركي لا يزال متجذراً في تفكير القرن العشرين، أو حتى القرن التاسع عشر، وليس على مستوى الشراكات الاستراتيجية للقرن الحادي والعشرين.”

أما التعهد الثاني الذي قطعه الرئيس بايدن استجابة للنداءات المتكررة من جانب أفريقيا هو بذل جهد حقيقي لإصلاح عمل مؤسسات الحوكمة العالمية، وخاصة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومجالس إدارة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ويزعم معظم القادة الأفارقة أن هذه المؤسسات هي بقايا من حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي أثبتت على مدار 70 عامًا أنها “غير كافية” في معالجة احتياجات الجنوب العالمي، وفقًا لرئيس كينيا ويليام روتو.

على سبيل المثال، تُظهر البيانات الأخيرة أن المكسيك، وهي عضو في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ودولة متوسطة الدخل، تلقت قروضًا من صندوق النقد الدولي العام الماضي أكثر من إجمالي قروض أفريقيا مجتمعة. وكان أداء بايدن أفضل قليلاً في البنك الدولي، حيث رشح رجل أعمال أمريكي من أصل هندي رئيسًا للبنك، والذي يرى كثيرون أنه أكثر تعاطفًا مع إصلاح المؤسسة لخدمة احتياجات الجنوب العالمي بشكل أفضل.

وعلى الرغم من عدم إحراز أي تقدم ملحوظ لإحداث هذا الإصلاح منذ موافقته عليه قبل عامين، فقد ضاعف بايدن جهوده هذا العام في الجمعية العامة للأمم المتحدة، داعيًا إلى حصول أفريقيا ليس على مقعد واحد، بل مقعدين دائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ولكن مع بقاء القليل من الوقت في إدارته، فإن هذا الاقتراح ليس لديه فرصة كبيرة للتقدم والنجاح. وقد ورد في الدراسة بهذا الصدد ما يلي:

“من عجيب المفارقات أن واشنطن أثارت ضجة كبيرة حول ضرورة إصلاح المؤسسات العالمية في مجموعة العشرين، المنظمة التي تأسست في عام 2008 لتنسيق الاستجابات الدولية للأزمات المالية العالمية، وتستمر واشنطن بالإعلان عن سعيها إلى منح الاتحاد الأفريقي وضع العضو الدائم في مجموعة العشرين، حتى برغم أن الصين والهند كانتا قد سجلتا بالفعل دعمهما لهذا الاقتراح. ولكن حتى الآن، برز نفاق واشنطن في عيون الأفارقة، حيث تواجه مجموعة العشرين الآن في المقام الأول التأثيرات العالمية لعقوبات مجموعة السبع على روسيا، والتي أدت إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية ودفع التضخم المؤلم في مختلف أنحاء القارة الأفريقية”.

وبحسب الدراسة فقد دفع هذا الاتجاه البلدان الأفريقية إلى السعي إلى إقامة تحالفات إقليمية خاصة بها، بما في ذلك من خلال أول توسع على الإطلاق لتحالف مجموعة البريكس، والذي يضم الآن جنوب أفريقيا ومصر وإثيوبيا، وهي البلدان التي قد تقود بقية أفريقيا إلى تحالفات مع منافسي واشنطن إذا لم يتم إجراء إصلاحات حقيقية في المؤسسات العالمية القائمة على محمل الجد.

لقد صاغ الرئيس بايدن رؤية لأفريقيا في العالم يتفق عليها الأفارقة تمامًا، لكن سجله في جعل هذه الرؤية حقيقة واقعة أقل بكثير بعد ما يقرب من أربع سنوات في منصبه. من المؤكد أن مثل هذه الرؤية الطموحة لم يكن من المرجح أن تتحقق في فترة ولاية واحدة فقط، خاصة عندما كان احتمال ولاية ثانية موجودًا حتى وقت قريب. وتخلص الدراسة الى انه في نهاية المطاف، لن يتم الحكم على سياسات إدارة بايدن تجاه إفريقيا بحد ذاتها بقدر ما سيتم الحكم على الفجوة الهائلة والفرق الشاسع بين تلك السياسات على أرض الواقع من جهة، والوعود والتصريحات الاميركية من جهة أخرى، وكلما زادت هذه الفجوة زادت النظرة المتشائمة للدول الأفريقية تجاه واشنطن، والتي تصل الى حد وصف السياسة الأميركية بالكذب والنفاق. ممي يعني أن الإدارة الاميركية القادمة عليها بذل جهد حقيقي لتحويل الوعد والأقوال الى سياسات وأفعال، والا فلتتحمل العواقب، والتي في مقدمتها اندفاع عدد أكبرر من الدول للتعاون مع منافسي واشنطن وفي مقدمتهم الصين.

 

المصدر:

 

https://www.csis.org/analysis/bidens-legacy-africa

 

شاهد أيضاً

بصمات إسرائيلية في انتخابات أرض الصومال

تشهد السواحل السودانية توترات عدة اضافة الى بوادر صراع محتمل تأججه أرض الصومال داخل القرن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *