مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، بدأت مراكز الدراسات العالمية بتحليل الوضع الراهن وما قد يحصل وتبعات الانتخابات على مختلف القضايا العالمية، ومن بينها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) هو منظمة بحثية سياسية غير ربحية، والذي نشر تقريراً تحليلياً مفصلاً عن تبعات الإنتخابات الاميركية المتوقعة على القارة الأفريقية، على الرغم من عدم وجود اختلاف كبير لدى القادة الأميركيين بما يخص السياسة الخارجية الاميركية في أفريقيا.
وكما ورد في التقرير، فالنهج الأميركي تجاه أفريقيا، منذ إدارة كلينتون، اتبع صيغة مماثلة تنطوي على برامج تنمية مميزة، وحديث طموح حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، وشراكات أمنية متزايدة التوسع أبقت العلاقات مع القارة على مسار ثابت. لكن التقرير يشير الى حدوث تغييرات طرأت على هذه السياسة، وذلك على ضوء الحرب في أفريقيا والحرب في غزة وقبلهما جائحة كورونا.
“ترى أفريقيا الولايات المتحدة اليوم من خلال عيون مختلفة تماما، وفي الوقت نفسه، يعمل الاستقطاب السياسي العميق والمتنامي في الولايات المتحدة على تقويض حتى المجالات التقليدية للتوافق بين الحزبين الرئيسيين هناك، مثل السياسة تجاه أفريقيا. ونتيجة لهذا فإن سلوك الإدارة الاميركية ونتيجة الانتخابات في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل سوف تؤثران بلا شك على كيفية النظر إلى واشنطن، وقد تؤثر على مجموعة من القضايا السياسية التي لا تهم أفريقيا ماديا فحسب، بل وسوف تؤثر أيضا على مصداقية الولايات المتحدة في القارة لسنوات قادمة” – كما جاء في التقرير.
لكن التقرير يشير الى أن الأفارقة لا يتوقعون إيجابيات كثيرة مهما كانت نتائج الإنتخابات، وذكر التقرير أن التوقعات الأفريقية التي كانت مبنية على أساس إنتخاب باراك اوباما، كانت قد تلاشت بسرعة، ولقد فقدت الكثير من الدول الأفريقية ثقتها بواشنطن عندما رأت أن السياسة الأميركية لم تتغير تجاه القارة حتى مع مجيء رجل من أصول أفريقية الى سدة الحكم في الولايات المتحدة، مما يعني أنه من غير المنطقي توقع تغيير كبير بالسياسة الاميركية، خصوصاً بما يتوفق مع المصالح الاميركية، وذلك بعد الانتخابات القادمة، لكن التقرير أشار الى أن هذا لا يعني أن تأثير الإنتخابات الاميركية معدوم.
وذكر التقرير أحداث عدة ساهمت في تبلور نظرة سلبية تجاه واشنطن من بينها ما حصل في ليبيا: “إن الإطاحة التي قادتها الولايات المتحدة بالزعيم الليبي معمر القذافي في عام 2011، والتي لا تزال آثارها الخبيثة تتردد في مختلف أنحاء القارة اليوم، تظل بمثابة تذكير بالفجوة المستمرة بين تعزيز القيم الأميركية والسعي العدواني إلى تحقيق المصالح الأساسية لواشنطن في أفريقيا”.
وبحسب التقرير فعلى الرغم من الوعود التي أطلقتها إدارة بايدن برفع الأصوات الجماعية للأفارقة في صنع القرار والمؤسسات العالمية، استمر البيت الأبيض في عدم الوفاء بوعده، فلا يوجد تمثيل لأي دولة أفريقية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بعد عامين من موافقة بايدن على الفكرة لأول مرة.
“وقد أدى هذا الإفراط في الوعود وعدم الوفاء بها إلى تعزيز السمعة الراسخة بأن واشنطن شريك غير موثوق به بطبيعته، بل وحتى منافق. ولم يفعل دونالد ترامب ولا كامالا هاريس، اللذان تجاهلا أفريقيا على مدار حملتيهما، أي شيء لإعطاء الأفارقة الانطباع بأن إدارتيهما ستكون مختلفة بشكل ملحوظ عن الماضي” – يقول التقرير.
وهذا كله يفسر، بحسب التقرير، عمل الأفارقة بنشاط على تنويع شراكاتهم السياسية والاقتصادية والأمنية بعيدًا عن واشنطن على مدى العقد الماضي، مما يتعارض أحيانًا مع المصالح الأمريكية. مثلاً تعد الصين حاليًا أكبر شريك تجاري واستثماري لأفريقيا، وأصبحت دول مثل روسيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة بشكل متزايد شركاء أمنيين مفضلين للدول الأفريقية التي تبحث عن مساعدات عسكرية غير مقيدة بشروط وطلبات وتدخلات بالشؤون الداخلية، كما هو الحال أثناء عقد الإتفاقات الامنية والعسكرية مع الغرب وخصوصاً مع الولايات المتحدة.
أما بما يخص المرشحين للرئاسة الاميركية، فقد ورد في التقرير:
“من المرجح أن تظل إدارة هاريس وفية لاستراتيجية بايدن الأميركية تجاه أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، التي صدرت في عام 2022، والتي تسعى إلى رفع صوت أفريقيا في المؤسسات العالمية وفي صنع القرار الأميركي بشأن المسائل السياسية التي تؤثر على القارة بشكل مباشر”، أما دونلد ترامب فقد يتوقع منه سياسة أكثر حزماً تجاه الدول الافرقية، وذلك بناء على تصريحات سابقة كان قد أدلى بها.
“يبدو أن مبدأ سياسة ترامب، هو مشروعه للعام 2025، ويتمحور حول أهمية أفريقيا من حيث أنها مصدر الاحتياطيات الكبيرة من المعادن المعتمدة على الصناعة، والقرب من طرق الشحن البحري الرئيسية، وقوتها الدبلوماسية الجماعية كقارة، وهذا يشير إلى أن فريق ترامب يدرك على الأقل الأهمية الاستراتيجية لأفريقيا في الأمد البعيد”.
ويرى التقرير أن الفرق الأكبر قد يكون بالنبرة والتصريحات، لكن مهما كان الفائز بالانتخابات، سيكون ملزماً باستكمال النهج الأميركي في القارة المبني على أساس مصالح الولايات المتحدة، وخصوصاً بسبب المنافسة مع الصين وروسيا في المنطقة، لكن التقرير يشير الى أن استمرار واشنطن بالنظر للقارة على أنها ساحة للصراع وتقاسم النفوذ مع الصين وغيرها، بدأ بإثارت حنق الدول الأفريقية التي كانت طوال عقود طويلة تستمع لمحاضرات واشنطن حول العلاقات الثنائية المتكافئة والشراكات المتساوية، مما يعني أن الولايات المتحدة تجازف بفقدان الثقة الأفريقية بشكل كامل، وبالتالي انجرار الدول الأفريقية واحدة تلو الاخرى الى التعاون مع الصين وروسيا وحتى تركيا، على حساب التعاون مع واشنطن.
وبالحديث عن التعاون الإقتصادي ورد في التقرير:
“سيتعين على الإدارة القادمة أولاً تجديد قانون النمو والفرص في أفريقي (AGOA)، وهو منصة التجارة التي تعود إلى عهد كلينتون والتي تظل حجر الزاوية في سياسة الولايات المتحدة تجاه أفريقيا والتي تنتهي في نهاية السنة المالية 2025. تنبع القوة المتأصلة للقانون من حقيقة أنه ظهر كإجابة مباشرة على الطلب المتكرر منذ فترة طويلة من قبل القادة الأفارقة لإقامة علاقة مع واشنطن على أساس التجارة وليس المساعدات”.
وبحسب التقرير يبدو أن هناك مخاوف من أن إدارة هاريس المحتملة قد تدفع بمتطلبات بيئية واجتماعية وحوكمة تبدو مرهقة والتي قد تعيق قانون النمو والفرص في أفريقيا بشكل أكبر، والتي ستكون قادرة على معاقبة الدول الأفريقية بقدر ما تكون قادرة على المكافأة عندما تفشل في تلبية المعايير العالية لواشنطن وتعزيز سمعة الولايات المتحدة كصديق لأفريقيا في الأوقات الجيدة.
وعلى نحو مماثل، فإن التهديدات الجمهورية بتعليق مشاركة جنوب أفريقيا، المستفيد الأكبر من قانون النمو والفرص في أفريقيا، بسبب علاقاتها الخارجية وتقربها من الصين وروسيا، تخاطر بتعزيز موقف الدول الأفريقية بأن الولايات المتحدة شريك غير موثوق به. ولهذا السبب، من الأفضل لأي إدارة أن تعزل هذا الامتياز التجاري عن أنواع المؤامرات السياسية في الداخل التي تقوض المصالح الأميركية في الخارج.
من ميزات فترة حكم ترامب كانت رؤيته للقارة باعتبارها رقعة شطرنج لكبح طموحات الصين المتنامية. إن تأطير العلاقات الأمريكية مع أفريقيا في سياق المنافسة بين القوى العظمى يعود إلى سياسات حقبة الحرب الباردة التي خلقت مناطق نفوذ في أفريقيا وصراعات بالوكالة قوضت التنمية السياسية والاقتصادية للقارة لعقود من الزمن. وفي حين حرصت إدارة بايدن على تأطير المشاركات الأمريكية في أفريقيا باعتبارها مهمة استراتيجيًا لمجموعة من الأسباب الأخرى، فإن اختيارها للشركاء يشير إلى أن الصين تظل المحرك الرئيسي للمشاركة الأمريكية في أفريقيا.
كما وكان للهجرة، بحسب التقرير، دور كبير في تشكيل النظرة الافريقية للولايات المتحدة، ويتذكر الأفارقة بوضوح اللغة المؤلمة التي استخدمها الرئيس ترمب عندما أصدر أول “حظر للمسلمين” خلال ساعاته الأولى في منصبه. ومن الممكن أن يؤدي فرض حظر جديد، وربما موسع، على دخول المواطنين من مجموعة من البلدان الأفريقية ذات الأغلبية المسلمة إلى الولايات المتحدة إلى انتكاسة العلاقات مع القارة قبل أن يتسنى صياغة أي سياسة أخرى خاصة بأفريقيا.
ومن المرجح أن تنضم دول مثل السودان وليبيا والصومال ــ التي مُنع مواطنوها في السابق من السفر إلى الولايات المتحدة ــ إلى قائمة أوسع نطاقا في ظل إدارة ترامب الثانية بسبب الهجرة غير الشرعية المتزايدة لغرب أفريقيا عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة في السنوات الأخيرة. والحقيقة أن العديد من هؤلاء المهاجرين الأفارقة ينحدرون من بلدان تعتبرها القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا الآن مركزا جديدا للعنف في العالم، وهو ما يزيد من احتمال أن تتمكن إدارة ترامب من حظر المزيد من الأفارقة من الوصول الى الشواطئ الأميركية.
كما ويشير التقرير الى عدد من القضايا الإجتماعية المتعلقة بالسياسة الأميركية:
“إن أحد العناصر التي لا تزال تثير غضب شركاء الولايات المتحدة في أفريقيا هو ميل واشنطن إلى فرض قيمها الاجتماعية على سياسة التنمية العالمية، سواء كان الأمر يتعلق بمتطلب احترام الدول لحقوق المثليين ومزدوجي الميل الجنسي والمتحولين جنسيا وتوسيع نطاقها كما هو منصوص عليه في سياسة إدارة بايدن، والذي من المرجح أن يستمر في ظل إدارة هاريس، أو الحظر المفروض على تمويل تنظيم الأسرة والإجهاض بدعم من الإدارات الجمهورية المتعاقبة، فإن كلا الحزبين لديهما تاريخ في فرض أخلاقهما على الشركاء الأفارقة”.
ويخلص التقرير الى أنه مع تصاعد المنافسة العالمية على النفوذ في أفريقيا على نحو متزايد، سوف يتطلع القادة الأفارقة إلى التأكد من أن مصالحهم قد تم الاستماع إليها والعمل عليها، وسوف يتطلب هذا من الولايات المتحدة ليس فقط تصميم الاستجابات لتلبية مخاوفهم المحددة، بل وأيضا الامتناع عن فرض معاركها السياسية الداخلية على شركائها. لقد استفاد القادة الأفارقة وواشنطن من الإجماع السياسي الحزبي الذي حدد علاقاتهم لعقود من الزمان. ولكن إذا تآكلت هذه الثنائية الحزبية أكثر من ذلك، فإن الولايات المتحدة تخاطر بالتنازل عن المزيد من النفوذ لمنافسيها وفي مقدمتهم الصين.
المصدر:
https://www.csis.org/analysis/what-us-elections-could-mean-africa