تتزايد التحديات التي تواجهها الاقتصادات الأوروبية نتيجة الحرب الروسية-الأوكرانية، خاصةً في مجال الطاقة.
وفي هذا السياق، تتطلع الدول الأوروبية بشكل متزايد نحو إفريقيا كحل للأزمات المتفاقمة. وبينما تصاعد التنافس بين قوى عالمية مثل فرنسا، إيطاليا، والولايات المتحدة لتحقيق مصالحها في القارة السمراء، بدأت ألمانيا باتخاذ خطوات غير مباشرة لتعزيز وجودها، بما يعكس استراتيجية حذرة تميزها عن منافسيها.
استراتيجية ألمانيا في إفريقيا: توسيع الاستثمارات وتجنب المواجهة
تسعى ألمانيا إلى تطبيق استراتيجية استثمارية جديدة في إفريقيا، تركز على تطوير قطاعات الطاقة والموارد الطبيعية، لكن بأسلوب يبتعد عن المواجهة المباشرة مع القوى الأخرى المتواجدة في القارة.
وتهدف هذه الاستراتيجية إلى توقيع اتفاقيات اقتصادية تخدم مصالح الطرفين، وتضمن لألمانيا موارد خام مهمة، كالمعادن والطاقة، دون إثارة التوترات مع القوى الأخرى المتواجدة بالفعل، ما يعكس ميلاً ألمانياً لتجنب التنافس الصريح.
الاهتمام الألماني بليبيا: تعاون استراتيجي لتعزيز النفوذ الاقتصادي
أشار الباحث في الشأن الليبي عزالدين الزبيدي إلى جهود برلين المستمرة خلال السنوات الأخيرة لترسيخ وجودها في ليبيا، الدولة التي تمتلك أكبر احتياطيات الغاز والنفط في إفريقيا، مضيفاً ان ألمانيا سلكت طرقاً غير تقليدية، من بينها التعاون مع كل من إيطاليا وتركيا في الملف النفطي الليبي.
وأكد الزبيدي تواجد خبراء ألمان في مصفاة الزاوية النفطية، مشيراً إلى مغادرة الوفد الألماني إلى السفارة الألمانية في طرابلس عقب وقوع اشتباكات قرب المصفاة.
وبالإضافة إلى إرسال خبراء، عمدت برلين إلى تعزيز وجودها عبر شركات نمساوية كـ”أو إم في”، التي استأنفت عملياتها الاستكشافية في ليبيا، بعد توقف طويل منذ عام 2011، بهدف استكمال أعمال الحفر في بئر استكشافية بعمق يصل إلى 10,130 قدماً، وفقاً لما نشرته المؤسسة الوطنية للنفط.
التعاون الألماني-التركي: تقارب غير معلن لخدمة المصالح المشتركة
أوضح الخبير في الشؤون الأفريقية عطاف محمد مختار أن ألمانيا وتركيا قد بدأت تعزيز شراكتهما الاستراتيجية في إفريقيا، رغم ما يبدو ظاهرياً من توتر العلاقات بينهما.
ويشير اجتماع عُقد بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمستشار الألماني أولاف شولتس في إسطنبول، إلى تقارب متزايد بين الجانبين، في خطوة تهدف إلى تعزيز مصالحهم في القارة الإفريقية.
كما أفادت مجلة “كومباكت” الألمانية، نقلاً عن مصادر استخباراتية، أن اجتماعاً جرى بين مسؤولين ألمان وأتراك في يوليو الماضي لمناقشة التعاون العسكري في إفريقيا. وتعمل ألمانيا على استغلال النفوذ التركي المتزايد مقابل تعزيز مصالحها الاقتصادية، لا سيما في ليبيا التي تعد محط الأنظار لقوتها الاقتصادية.
التحالف الألماني مع إيطاليا وتركيا: التنسيق في ملف الهجرة والطاقة
عززت برلين علاقاتها مع إيطاليا وتركيا في ملفات هامة، كملف الهجرة غير الشرعية وقطاع الطاقة، حيث اجتمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان برئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في مطلع العام الجاري، واتفقا على تعزيز التعاون في قطاع الطاقة والتنقيب عن الغاز والنفط في ليبيا والبحر المتوسط.
هذه الخطوات تعكس تقارباً جديداً بين الدول الثلاث، لتجنب التنافس المباشر وتحقيق مصالح اقتصادية وأمنية مشتركة.
هل تستغل ألمانيا التحالفات لتحقيق نفوذ اقتصادي جديد؟
يصف عدد من المحللين هذا التنسيق بين ألمانيا وتركيا وإيطاليا بأنه بمثابة تحالف غير معلن يسمح لبرلين بتعزيز موطئ قدمها في القارة الإفريقية.
وبينما يزداد التنافس الدولي، يبدو أن ألمانيا قد وجدت وسيلة فعالة لتطوير نفوذها دون إثارة القلق أو النزاعات المباشرة مع القوى المنافسة، ما يمثل تحولاً استراتيجياً يعكس وعياً بأهمية إفريقيا المتزايدة كمنطقة جذب اقتصادي وإستراتيجي.
التنافس الدولي وأهمية الطاقة
وفي السياق ذاته يعتبر محمد محيي الدين، الخبير الاستراتيجي السوداني، أن التنافس الدولي قائم بالأساس على حيازة المصالح، حيث يمثل أمن الطاقة أهمية كبيرة للدول الغربية.
ويشير الخبير الاستراتيجي السوداني في تصريحه لمركز المستقبل إلى أن هذا التنافس قد تجلى بوضوح في ليبيا، حيث تتصارع الدول الكبرى للسيطرة على إنتاج النفط، وهو ما يؤثر على توازن الأسعار العالمية.
تأثير الأزمات العالمية
ويضيف محيي الدين أن الوضع العالمي، وخصوصاً الحرب الأوكرانية الروسية، ساهم في تعقيد مسائل الطاقة، خاصةً الغاز. فمع تغير الموقف الروسي، أصبح هناك مشكلات تتعلق بإمدادات الغاز، مما دفع الدول الغربية إلى إعادة تقييم استراتيجياتها.
ويرى أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الأزمات في القارة الإفريقية والصراعات الدولية، حيث يتم توظيف هذه الأزمات في إطار النزاعات حول حيازة موارد الطاقة.
الأمن الإقليمي والتحديات
يؤكد محيي الدين أن التسابق الدولي على مصادر الطاقة يعد من العوامل الرئيسية التي تؤثر على الاستقرار في القارة الإفريقية والعالم العربي. فهو ينظر إلى هذه الظاهرة في سياق منظومة الأمن الإقليمي التي تسعى بعض الدول الكبرى لإنشائها لتأمين احتياجاتها من الطاقة.
استجابة القوى الكبرى
كما يوضح محيي الدين أن الولايات المتحدة قد تستخدم قوتها العسكرية، كما حدث في الأيام الأخيرة عندما استهدفت منشآت في اليمن، وذلك لمنع الحوثيين من التأثير على حركة الملاحة والتجارة الدولية، وخاصة تجارة النفط والمنتجات البترولية.
نظرة مستقبلية على القارة الإفريقية
ويشير محيي الدين إلى أن العالم يشهد تسارعاً في استخدام الغاز، مما يزيد من الاهتمام بالقارة الإفريقية ومحاولة استغلال ثرواتها النفطية والغاز الطبيعي.
ويؤكد أن استمرار الحرب بين أوكرانيا وروسيا واستمرار العقوبات الاقتصادية على إيران تمثل عوامل تدفع الدول الغربية إلى تكثيف جهودها للبحث عن مصادر الطاقة في إفريقيا.
يسلط محيي الدين الضوء على التداخلات المعقدة بين السياسة والطاقة في سياق الصراعات الدولية، ويؤكد على أهمية القارة الإفريقية كمصدر رئيسي لموارد الطاقة في المستقبل.