هل نجحت الدبلوماسية الروسية في إفريقيا؟

نشر موقع معهد الحرب الحديثة للدراسات الاستراتيجية والعسكرية (Modern War Institute) مقالاً بعنوان: من سوريا إلى أفريقيا، استراتيجية روسيا متعثرة – لكن تداعياتها ستستمر، وكاتبه فيديريكو مانفريدي فيرميان وهو محاضر في العلوم السياسية في معهد العلوم السياسية في باريس، وزميل باحث مشارك في معهد الدراسات السياسية الدولية، وزميل باحث غير مقيم في معهد الحرب الحديث.

ويعبر المقال بوضوع عن مدى يأس الشركاء الغربيين وإحباطهم بسبب الحراك الدبلوماسي الروسي على الساحة الأفريقية، والسرعة التي تقوم بها روسيا بتوقيع الاتفاقيات والمعاهدات مع الدول الأفريقية، مما يهدد النفوذ الغربي في القارة السمراء بأسرها، واستهل الكاتب مقاله بالإشارة الى نجاح روسيا خلال العقود الماضية من إظهار نفسها كحليف موثوق لعدد من الحكومات الشرعية في أفريقيا والشرق الأوسط، وإعتمادها على تقديم الدعم العسكري والاستشاري وكذلك العقود الموقعة بين الشركات، وقد كانت الحكومات الأفريقية دائماً تسعى لإقتناص أي فرصة للتخفيف من الضغط الغربي عليها بدواعي تقليدية مثل حقوق الانسان أو الديمقراطية، وكانت روسيا تقدم مثل هذه الفرص بشكل مستمر، وينوه المقال الى التحولات التي حصلت خلال السنوات السابقة على جهود روسيا ضمن هذا السياق:

“كانت مجموعة فاغنر ذات يوم في قلب هذا الجهد، لكن الكرملين كان دائمًا القوة الدافعة. ومنذ تمرد فاغنر في عام 2023 وإعادة هيكلتها لاحقًا باسم فيلق أفريقيا تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية، شددت موسكو قبضتها على العمليات اليومية هناك”،

وعلى الرغم من سعي الحكومات الأفريقية الى التقارب مع روسيا بحيث يصل هذا التقارب في بعض الأحيان الى تحالفات عميقة، يربط الكاتب نجاح موسكو بمد نفوذها بهشاشة الدول في تلك المنطقة:

“لقد أسفرت مناورة روسيا عن بعض المكاسب الاستراتيجية قصيرة الأجل، مما مكن الكرملين من توسيع نطاقه الجيوسياسي مع تسهيل مخططات التهرب من العقوبات والمعاملات المربحة. ومع ذلك، يكشف استعراض لكل دولة على حدة أن تدخلات روسيا أدت باستمرار إلى تفاقم هشاشة الدولة وفشلها، مما حد في نهاية المطاف من مدى نفوذ الكرملين نفسه”،

ولكن الباحث الاستراتيجي لم يأت سوى بسوريا كمثال على فقدان روسيا لنفوذها السابق.

ويضيف المقال: “بدأ عدد من الزعماء الأقوياء المحاصرين والمستبدين المحتملين في مختلف أنحاء أفريقيا في التودد إلى الكرملين طلبا للدعم ــ ومن بينهم خليفة حفتر في ليبيا، وعمر البشير في السودان، وفوستين أرشانج تواديرا في جمهورية أفريقيا الوسطى. ثم، بين عامي 2020 و2023، استغلت روسيا موجة الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وأقامت علاقات وثيقة مع المجالس العسكرية الحاكمة الجديدة وشجعتها على طرد القوات العسكرية الأميركية والفرنسية”.

ويعتقد الباحث في مقاله أن الحرب في أوكرانيا وكذلك ما حصل في سوريا سيكون لها تداعيات على وضع روسيا في القارة الأفريقية، رغم أنه لا مؤشرات حتى هذه اللحظة على أن هناك أي جهات أفريقية لم تعد تريد علاقات مع موسكو على ضوء الأحداث السورية الاخيرة:

“إذ تستمر الحرب في أوكرانيا في استنزاف الموارد الروسية، ولا تزال إعادة هيكلة فاغنر وتحويلها إلى فيلق أفريقيا عملاً قيد التنفيذ يواجه تحديات. وفي الوقت نفسه، أدى انهيار نظام الأسد إلى تحطيم صورة موسكو كشريك يمكن الاعتماد عليه في مكافحة التمرد، مما أرسل إشارة واضحة ومزعجة إلى الزعماء الأفارقة الذين يعتمدون على روسيا من أجل الأمن”.

لقد كانت الحكومات الأفريقية تسعى الى علاقات مع روسيا ومساعدات عسكرية منها، من أجل حفظ الامن ومنع الجماعات المتطرفة من مدّ نفوذها، فحالة عدم الإستقرار كانت حاضرة حتى قبل مجيء روسيا بنفوذها وشركاتها، كما ويربط عدد كبير من المتابعين زيادة النشاط من قبل الجماعات الإرهابية في عدد من الدول الأفريقية بسعي الغرب الى الحد من النفوذ الروسي عن طريق تقويض الأمن في المنطقة. لكن الباحث في معهد الحرب الحديثة يرى الأمور بصورة معاكسة فيقول:

“لقد تدهورت الأوضاع الأمنية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر بشكل كبير منذ قطعت المجالس العسكرية الحاكمة شراكاتها الأمنية مع فرنسا والولايات المتحدة لمواصلة العلاقات مع روسيا. ووفقا للأمم المتحدة، أصبحت منطقة الساحل الآن مركزا عالميا للعنف الإرهابي”.

لكن ومن له مصلحة في تدهور الاوضاع الأمنية في تلك الدول المذكورة بعد ان بنت شراكات وعلاقات استراتيجية مع روسيا؟ – يتساءل مراقبون.

ويتابع المقال استعراض آخر التطورات الامنية على الساحة الأفريقية مع الإشارة الى زيادة نشاط الجماعات الإسلامية المتطرفة هناك:

“في بوركينا فاسو والنيجر، نشر فيلق أفريقيا الروسي حتى الآن فرق استشارية صغيرة فقط، يبلغ عددها بضع مئات من الأفراد على الأكثر، على الرغم من التحديات الأمنية المتزايدة. في بوركينا فاسو، أصبح أكثر من 60 في المائة من البلاد الآن خارج سيطرة الحكومة، حيث تحاصر جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم الدولة الإسلامية في الساحل العاصمة واغادوغو. كما أن الوجود القوي لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين في المناطق الحدودية الشرقية لبوركينا فاسو أدى الى توسع راديكالي أكبر في بنين وتوغو، مما يهدد بشكل خطير استقرار الدولتين الساحليتين”.

ويحمّل الباحث المسؤولية بشكل كامل على الجانب الروسي فيما يخص بمهمة حفظ الأمن ومواجهة الجماعات المتطرفة، وكأن روسيا يجب أن تلعب دور الدول الأفريقية ذاتها، وفي نفس الوقت يشكو من النفوذ الروسي. ويعتقد الباحث أن مجريات الأحداث الأوكرانية قد تحد من قدرة روسيا على مساعدة حلفائها الأفريقيين:

“إن التدهور السريع للأمن في مالي وبوركينا فاسو والنيجر يسلط الضوء على كيف أن الحرب في أوكرانيا قد تحد من قدرة روسيا على دعم عمليات مكافحة التمرد في أفريقيا بشكل فعال. والواقع أن دور روسيا في حزام الانقلابات في منطقة الساحل يبدو وكأنه لا يزيد كثيراً عن دور الضامن المؤقت للحكم العسكري. ولكن الفراغ الأمني ​​في منطقة الساحل لا يبشر بالخير للمنطقة الأوسع، حيث تتعرض العديد من الدول لخطر امتداد الصراع”.

ويشير المقال الى أهمية ليبيا بالنسبة لروسيا، وخصوصاً بعد اندلاع الحرب الاهلية في السودان، وكذلك الإنسحاب الروسي الجزئي من سوريا:

“قد تبدو ليبيا أكثر استقرارا من السودان، لكن النفوذ الروسي ساهم في إحداث وضع راهن مختل وفاسد للغاية. يعتمد موطئ قدم موسكو العسكري في ليبيا إلى حد كبير على علاقتها بخليفة حفتر البالغ من العمر واحد وثمانين عامًا، والذي تسيطر قواته على شرق ليبيا. بعد خسارة الأسد للسلطة في سوريا، أصبحت ليبيا الخاضعة لسيطرة حفتر أكثر أهمية بالنسبة للكرملين”.

ويضيف المقال: “ولكن حفتر لم يحسم أمره بعد بما يتعلق بإقامة قاعدة بحرية روسية في طبرق أو بنغازي، وهي القاعدة التي نوقشت كثيرا. وفي حين أن حفتر ظل قريبا من الكرملين، فلقد عمل على تنمية علاقات مع جهات أجنبية متعددة، بما في ذلك مصر والإمارات العربية المتحدة وفرنسا وإيطاليا، وتواصل بهدوء مع الولايات المتحدة. وقد وضع بعض أبنائه أنفسهم بشكل متزايد كوسطاء قوة براجماتيين، مستغلين العلاقات مع تركيا والجهات الفاعلة الأوروبية لتنويع تحالفات ليبيا. ولا يزال نفوذ روسيا في ليبيا كبيرا ولكنه ضعيف”.

ويعترف الباحث وكاتب المقال بقوة النفوذ الروسي في جمهورية أفريقيا الوسطى:

“ولا تزال جمهورية أفريقيا الوسطى واحدة من أقوى معاقل روسيا في أفريقيا. ويواصل الرئيس تواديرا الاعتماد على قوات فاغنر للأمن الشخصي، في حين تحافظ شبكات الأعمال المرتبطة بروسيا على قبضتها على صناعات الذهب والماس ومواقع قطع الأشجار وحتى البيرة والخمور في البلاد”.

ويقدم البحث نصائح للولايات المتحدة حيال كيفية التعامل مع النفوذ الروسي في أفريقيا، ويركز على محاولة استنزاف روسيا في أفريقيا:

“بالنسبة لصناع السياسات في الولايات المتحدة، قد يكون من المغري السماح لروسيا بالتمدد المفرط واستنزاف نفسها. سيكون هذا خطأ بالنسبة لروسيا، فالتدخلات الروسية لا تفشل فحسب، بل إنها تزيد من زعزعة استقرار الدول الهشة الممزقة بالصراع، وتخلق الظروف لتمردات مطولة وتهديدات أمنية أخرى طويلة الأجل. في ليبيا، لا يزال الوجود العسكري الروسي يهدد الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي ويدعم نفوذ الكرملين المزعزع للاستقرار من السودان إلى مالي. أصبحت منطقة الساحل الآن برميل بارود لنشاط المتمردين الجهاديين السلفيين، والعنف ينتشر إلى غرب أفريقيا الساحلية”.

كما ويدعو بشكل صريح الى استخدام سياسة العصا والجزرة تجاه الحكومات التي تريد التقارب مع موسكو:

“ولاحتواء النفوذ الروسي، يتعين على الولايات المتحدة أن تدعم الحكومات الجيدة إلى حد معقول في أفريقيا وأن تثبت أن واشنطن تقدم مسارا أفضل للأمن والتنمية من الكرملين. وبالإضافة إلى ذلك، يتعين على وزارة الخزانة الأميركية أن تواصل فرض العقوبات على الأفراد المتورطين في معاملات تجارية فاسدة تغذي الصراع وتقوض السلام والأمن الدوليين. وإذا فشلت واشنطن في التصرف بحزم، فلن تتنازل عن الأرض لموسكو فحسب، بل ستمكن المستبدين وأمراء الحرب من مواصلة تأجيج الصراع وفشل الدولة، في أفريقيا وخارجها”.

ويختم الباحث بالإشارة الى التحدي الذي يشكله النفوذ الروسي في أفريقيا بالنسبة للغرب:

“ورغم أن الرهانات الروسية في أفريقيا باتت غير مرجحة على نحو متزايد لأن تؤتي ثمارها في الأمد البعيد، فإن قدرتها على تأجيج عدم الاستقرار وتحدي المصالح الأميركية تظل تشكل مصدر قلق بالغ الأهمية”.

ويعيد هذا الكلام بالذاكرة الى الوراء وخصوصاً الى الحرب الأفغانية وسياسة الإستنزاف التي اتبعتها الولايات المتحدة ضد الإتحاد السوفييتي، حيث كانت زعزعة الإستقرار ودعم الحركات الإسلامية الراديكالية في صلب السياسة الغربية، واليوم تتكرر نفس الأحداق بتشابه كبير، فالحكومات الأفريقية تتجه لموسكو من أجل الحصول على المساعدة العسكرية والتعامل مع التهديدات الأمنية، ورغم أن الغرب لن يعترف اليوم بأن له دور مباشر في تحريك الجماعات المتطرفة في أفريقيا، فلا بد أن يأتي يوم ونسمع مثل هذا الإعتراف بألسنة المسؤولين الغربيين انفسهم، تماماً كما حصل بمسألة دعم الولايات المتحدة لجماعة طالبان الإرهابية سابقاً.

 

المصدر:

https://mwi.westpoint.edu/from-syria-to-africa-russias-strategy-is-faltering-but-its-repercussions-will-endure/

شاهد أيضاً

المستقبل السوري من وجهة نظر روسية

نشر موقع المجلس الروسي للشؤون الدولية (RIAC) وهو مؤسسة بحثية أكاديمية ودبلوماسية غير ربحية، دراسةً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *