شهدت السياسة الأميركية تغييرات حادة خلال الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب، خصوصًا فيما يتعلق بالملف السوري ومستقبل قطاع غزة، ففي سوريا، أدى سقوط نظام بشار الأسد إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي، حيث تولى أحمد الشرع، قائد “هيئة تحرير الشام”، السلطة في الثامن من ديسمبر الماضي، وعين رئيسا للجمهورية العربيَّة السوريَّة للمرحلة الانتقالية، ما أثار ردود فعل إقليمية ودولية متباينة.
فتح هذا التحول الكبير الباب أمام تساؤلات بشأن موقف الولايات المتحدة من سوريا، خاصة مع استمرار وجودها العسكري في المنطقة، رغم تأكيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في يناير الماضي أن بلاده لا تمتلك مصلحة في التدخل هناك، مضيفًا أن تركيا وحدها كانت وراء إسقاط الأسد، غير أن هذه التصريحات جاءت متناقضة مع الوقائع الميدانية، حيث استمر الوجود الأميركي في سوريا، وظل مستقبل العقوبات المفروضة عليها محل جدل مستمر.
يُعرف ترامب بنهجه السياسي غير التقليدي، إذ غالبًا ما يُطلق تصريحات حاسمة ثم يتراجع عنها لاحقًا، أو يغير مسارها بطريقة غير متوقعة، مما يجعل من الصعب على الدول التعامل معه على أسس واضحة، هذا النهج عزز حالة عدم اليقين لدى العديد من القوى الدولية، التي باتت تتعامل بحذر مع أي خطوة تتخذها إدارة ترامب، خاصة في الملفات الحساسة مثل الملف السوري والقضية الفلسطينية.
سياسة “العين الحمراء” أسلوب أمريكي غير متسقة مع الواقع في الشرق الأوسط

وفي نفس السياق صرّح الأستاذ، أحمد شادي، خبير الشؤون العربية والأفريقية، لمركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية وتقييم المخاطر أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط تحت إدارة دونالد ترامب لا تتسم بالاستمرارية أو الوضوح اللازم لتصبح ذات مصداقية.، والدليل على ذلك أن إعلان ترامب بعدم وجود مصلحة أميركية في سوريا يتناقض مع استمرار الوجود العسكري الأميركي الملحوظ في البلاد، مما يعكس غياب الاستراتيجية الواضحة.
وأضاف احمد شادي، أن هذه السياسة غير المتسقة تضعف من مصداقية الولايات المتحدة لدى الحلفاء وتزيد من حالة عدم اليقين في المنطقة، مما يعقد التعامل معها على المستويين الإقليمي والدولي.
فالتدخل الأميركي المستمر في سوريا رغم تصريحات ترامب حول انسحاب القوات يمثل استمرارًا لسياسة “العين الحمراء” في منطقة الشرق الأوسط والتي تهدف إلى تحقيق مصالح استراتيجية مثل احتواء النفوذ الإيراني وتعزيز الأمن الإسرائيلي، خاصة في المناطق الشمالية والشرقية.
تصريحات ترامب حول غزة وإثارة الجدل الإقليمي
في سياق آخر، أثارت تصريحات ترامب حول تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن غضبًا واسعًا، سواء على المستوى العربي بل والعالمي، فمنذ الخامس والعشرين من يناير الماضي، بدأ الحديث عن خطة أميركية لإنشاء “ريفييرا الشرق الأوسط” في غزة، وذلك بعد تدمير القطاع بالكامل وإعادة تشكيله وفق رؤية اقتصادية، وهي خطوة رفضتها دول الجوار رفضًا قاطعًا.
وجاء رد الفعل المصري سريعًا، حيث أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا شديد اللهجة يؤكد تمسك القاهرة بحقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك حقه في تقرير المصير، كما أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة هو الحل الوحيد لضمان السلام الدائم في المنطقة، مشددًا على ضرورة إعادة إعمار غزة دون المساس بسكانه، أما الأردن، فقد جدد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني رفضه القاطع لفكرة تهجير الفلسطينيين، موضحًا أن هذا الرفض يمثل موقفًا عربيًا موحدًا في مواجهة المخططات الأميركية.
تصريحات ترامب تنتهك حقوق الفلسطينيين وتهدف الى تصفية القضية
وفيما يتعلق بالخطط التي تتضمن تهجير الفلسطينيين من غزة، فقد شدّد، احمد شادي، وهو مختص بالملف الإقتصادي العربي والإفريقي، وخبير في تحليل السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، بأنّ تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب تمثل انتهاكًا صارخًا لحقوق الفلسطينيين وتسعى إلى تقويض وتصفية القضية الفلسطينية بشكل تدريجي، وتحويل الفلسطينيين إلى “لاجئين” في دول الجوار.
مضيفا، مع العلم أنه لا سلام حقيقي يمكن أن يتحقق في منطقة الشرق الأوسط دون حل عادل للقضية الفلسطينية، بما في ذلك الحق في العودة وتقرير المصير.
فطرح خطط “التهجير” يعكس الرغبة الأميركية في إعادة تشكيل الخرائط السياسية والاقتصادية في المنطقة بما يتناسب مع مصالحها، وهو ما يتنافى مع السيادة الوطنية لدول مصر والأردن وسوريا.
الموقف السوري من خطة التهجير الأميركية
من جانبه، عبّر الرئيس السوري أحمد الشرع عن رفضه المطلق لخطة ترامب، معتبرًا إياها مشروعًا فاشلًا لن يُكتب له النجاح، وخلال حديث إعلامي، أكد الشرع خلال بودكاست مع “أليستر كامبل”، أن سكان غزة تحملوا الحصار والدمار ولن يقبلوا بأي حال من الأحوال مغادرة أرضهم، كما أشار إلى أن إجبار الفلسطينيين على ترك وطنهم يُعد جريمة كبرى، مؤكدًا أن العالم لن يسمح بتمرير مثل هذه السياسات.
وفي الوقت ذاته، جدّد الشرع دعوته إلى القوى الدولية لرفع العقوبات المفروضة على سوريا، مشيرًا إلى أنها لم تعد مبررة بعد الإطاحة بالنظام السابق.
ووسط هذه التصريحات، انتشرت تقارير إعلامية تشير إلى احتمالية نقل سكان غزة إلى جنوب سوريا، في حال فشلت خطة تهجيرهم إلى مصر أو الأردن، هذا السيناريو، بحسب بعض المحللين، قد يكون جزءًا من رؤية أوسع للولايات المتحدة وإسرائيل بشأن إعادة توزيع السكان في المنطقة بما يخدم مصالحهما الاستراتيجية.
بحسب الخبراء، قد تنظر إدارة ترامب، بالتنسيق مع إسرائيل، إلى الجنوب السوري كخيار بديل لاستيعاب سكان غزة، مستفيدة من حالة عدم الاستقرار السياسي في سوريا، التي تعيق قدرة الحكومة الجديدة على اتخاذ موقف حازم حيال هذه القضية، ويرى الخبراء أيضا، أن النفوذ الإسرائيلي المتزايد في الجنوب السوري، حيث ثبّتت تل أبيب قواعد عسكرية ونقاط نفوذ، قد يسهم في تسهيل تنفيذ مشروع التهجير، كما أن المساحات الواسعة من الأراضي هناك توفر بيئة مناسبة لتطبيق هذه الخطة، إذا ما تم التوصل إلى تفاهمات دولية أو إقليمية تسمح بتمريرها دون إثارة ردود فعل قوية تعيق تنفيذها.
اكتشاف المزيد من مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية وتقييم المخاطر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.