مركز المستقبل – عبد الحميد الطحاوي (كاتب صحفي بالشؤون الخارجية)
مع سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر الماضي، دخلت سوريا مرحلة جديدة من التحولات السياسية والعسكرية، حيث أدى انهيار النظام إلى فراغ سياسي كبير، ما أثار سباقًا بين الفاعلين الدوليين والإقليميين لملء هذا الفراغ وتشكيل مستقبل البلاد، بينما سرعان ما طل احمد الشرع، “ابو محمد الجولاني” ليملأ هذا الفراغ بتوليه مقاليد الحكم اولا بسلطة مؤقتة مدعومة من قواته العسكرية ثم تلاها تفويض بحكم انتقالي من بعض الفصائل الأخرى.
وتلعب كل من الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل أدوارًا رئيسية في المشهد السوري حتى الان، إلى جانب الفاعلين المحليين مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والفصائل المعارضة الأخرى، التي مازالت في طور تحديد الأدوار وتقنين التواجد داخل الجيش السوري من ناحية ومشاركة نظيراتها أدوار سياسية داخل الحكومة من ناحية اخرى.
ويظل المشهد في سوريا مركبا ومتشابكا وسط تلك التداخلات، ف بتاريخ 15 فبراير 2025، قال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ، المعين في حكومة احمد الشرع، إن الواقع في سوريا “مُعقد ومُتشابك”، ويتطلب من المجتمع الدولي “تفهّم الوضع”، مشيراً خلال مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن، إلى أن السلطة “لن تكون في يد شخص واحد”.
وجاء حديث الشيباني في جلسة نقاش على هامش المؤتمر، بمشاركة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، وعضو اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني السوري هند قبوات، تحت عنوان “فجر جديد لدمشق: آفاق التحول في سوريا”.
ولفك عقد تلك التشابكات، تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الوضع الراهن في سوريا بعد سقوط الأسد، واستعراض مصالح القوى المتداخلة ودورها في إعادة تشكيل المشهد السوري.
أولًا: الوضع الداخلي في سوريا بعد سقوط الأسد
الفراغ السياسي والأمني
مع سقوط نظام الأسد، دخلت سوريا في حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، تفكك مؤسسات الدولة المركزية، وانسحب الجيش النظامي من معظم المناطق، مما أدى إلى انتشار الفوضى وظهور تحالفات جديدة بين الفصائل المسلحة، وسرعان ما ظهرت حكومة انتقالية شكلتها قوى المعارضة وترأسها احمد الشرع، بدعم من بعض الدول الغربية والعربية، لكنها تواجه تحديات كبيرة في توحيد البلاد وإعادة الاستقرار.
الصراعات بين الفصائل المسلحة
برزت صراعات داخلية بين الجماعات المسلحة المختلفة، خاصة بين الفصائل الإسلامية المدعومة من تركيا، وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة، وبقايا الميليشيات الموالية للأسد. هذا الصراع يعقّد عملية تشكيل حكومة مركزية قوية، ويزيد من تعقيد جهود تحقيق الاستقرار، بينما حققت الحكومة تقدم كبير في عملية حل الفصائل ودمجها في الجيش، واتخذت خطوات ناجحة لحصر السلاح في يد الدولة
الأزمة الإنسانية وإعادة الإعمار
أدت سنوات الحرب الطويلة إلى دمار هائل في البنية التحتية السورية، ونزوح ملايين المدنيين. مع سقوط الأسد، بدأت منظمات دولية بطرح خطط لإعادة الإعمار، لكن تنفيذها يعتمد بشكل كبير على استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية
ودعا المبعوث الأممي إلى سوريا جير بيدرسون جير بيدرسون إلى رفع العقوبات عن سوريا، لافتاً إلى أن “18 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدات إنسانية”.
وقال بيدرسون إن “رفع العقوبات من أبرز التحديات أمام الإدارة السورية الجديدة، كما لن نتمكن من تحقيق نجاح سياسي في سوريا من دون اقتصاد منتعش”.
وكشف المدير الإقليمي للدول العربية ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، عبدالله الدردري، عن ملامح المشاورات التي أجراها مع الإدارة الانتقالية في سوريا، مسلطًا الضوء على رؤية البلاد المستقبلية والتحديات التي تواجه إعادة الإعمار.
وأن سوريا بحاجة إلى ما لا يقل عن 36 مليار دولار من الاستثمارات الاقتصادية خلال السنوات العشر القادمة، باستثناء قطاع السكن. كما أوضح أن تحقيق هذه الاستثمارات يتطلب زيادة الإنتاجية بنسبة 4 بالمئة سنويًا، وهو تحدٍّ كبير
ثانيًا: دور تركيا في المشهد السوري الجديد
الطموحات التركية في شمال سوريا لطالما سعت تركيا إلى توسيع نفوذها في شمال سوريا، وخاصة في المناطق التي تسيطر عليها الفصائل المدعومة منها مثل الجيش الوطني السوري. ومع سقوط الأسد، كثفت أنقرة جهودها لإنشاء منطقة نفوذ دائمة في الشمال السوري، مدفوعة بمخاوفها من تمدد النفوذ الكردي.
تركيا تعتبر قوات سوريا الديمقراطية تهديدًا لأمنها القومي بسبب ارتباطها بحزب العمال الكردستاني (PKK). ومع غياب الأسد، ازداد احتمال وقوع مواجهات مباشرة بين تركيا وقسد، مما يعقد الأوضاع الأمنية ويهدد باندلاع صراع جديد في الشمال السوري.
كما بكثف الرئيس التركي، رجب طيب أردوجان، من مطالباته للحكومة الجديدة في سوريا بنزع سلاح “قسد” ودمجمهم في القوات المسلحة التابعة للدولة، بينما يبدو هذا الأمر ليس بالهين نظرا لسيطرة قسد على مناطق غنية بالموارد النفطية وامتلاكها لقوة عسكرية لا يستهان بها.
العلاقة مع الفصائل المسلحة.
لا تزال تركيا تقدم الدعم للفصائل المسلحة ، خصوصًا في إدلب وحلب. ومع انهيار النظام، تحاول أنقرة تعزيز سيطرتها على هذه الفصائل لضمان نفوذها السياسي والعسكري في أي ترتيبات مستقبلية لحكم سوريا.
ثالثًا: دور الولايات المتحدة ودعمها لقوات سوريا الديمقراطية
استمرار الدعم الأمريكي ل “قسد”
على الرغم من سقوط الأسد، لا تزال الولايات المتحدة تدعم قوات سوريا الديمقراطية، نظرًا لدورها المحوري في محاربة تنظيم داعش وحماية المصالح الأمريكية في المنطقة. تعمل واشنطن على تمكين قسد من إدارة المناطق التي تسيطر عليها، ومنحها المزيد من الشرعية السياسية والدعم العسكري، ليس فقط لضمان لعب دور سياسي بل ايضا نظرا لسيطرة الفصيل المسلح على مناطق نفطية واسعة.
وتسيطر قوات “قسد” حالياً على مناطق كبيرة في شرق وشمال شرق البلاد، حيث يتواجد معظم الاحتياطي النفطي، البالغ إجماليه 2.5 مليار برميل، بحسب إحصاءات إدارة معلومات الطاقة الأميركية.
كما تضم المنطقة أكبر الحقول في البلاد، بما في ذلك حقل السويدية، الذي كان ينتج ما بين 110 آلاف إلى 116 ألف برميل من النفط يومياً، وحقل الرميلان، الذي كان ينتج 90 ألف برميل يومياً، في الحسكة، فضلاً عن حقول دير الزور، وعلى رأسها حقل العمر النفطي الذي كان ينتج نحو 80 ألف برميل يومياً، بحسب منصة “الطاقة” المتخصصة..
الصراع الأمريكي-التركي في سوريايخلق دعم واشنطن لقسد توترًا مستمرًا مع تركيا، التي تعتبر وجود قسد في شمال سوريا تهديدًا مباشرًا لأمنها. هذا الخلاف يجعل التنسيق بين واشنطن وأنقرة في سوريا معقدًا، ويزيد من احتمال اندلاع اشتباكات بين الطرفين عبر وكلائهما المحليين.
الأهداف الأمريكية طويلة المدى
الولايات المتحدة تسعى إلى منع عودة النفوذ الإيراني والروسي في سوريا بعد سقوط الأسد، ولذلك تعمل على تمكين حلفائها المحليين، خصوصًا الأكراد، وتحافظ على وجودها العسكري في مناطق شرق الفرات لضمان عدم وقوعها تحت سيطرة أي جهة معادية.
رابعًا: الأطماع الإسرائيلية في سوريا بعد الأسد
إسرائيل ترى في سقوط الأسد فرصة لإضعاف النفوذ الإيراني في سوريا، وتحييد الخطر الذي يهدد حدودها من “محور المقاومة” التي تمثل سوريا جزء أصيل فيه، فقد استثمر النظام الإيراني الحرب لدعم حزب الله اللبناني وإنشاء قواعد عسكرية في سوريا، مما جعل إسرائيل تستهدفها بالغارات الجوية مرارًا. مع غياب الأسد، تحاول إسرائيل الضغط على القوى الغربية لضمان تقليص الوجود الإيراني في سوريا.
تسعى إسرائيل إلى التأثير في الترتيبات السياسية لما بعد الأسد، من خلال دعم الفصائل التي تعارض النفوذ الإيراني في سوريا، كما تسعى إلى بناء تحالفات مع بعض المكونات المحلية لضمان بقاء الجولان المحتل تحت سيطرتها وفرض سيطرة على مناطق جديدة بقوة السلاح متجاوزة القوانين الدولية..
كما يوجد تنسيق مستمر بين إسرائيل والولايات المتحدة بشأن مستقبل سوريا، حيث تدعم واشنطن الضربات الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية، وتعتبر إسرائيل شريكًا أساسيًا في خططها لإعادة تشكيل الشرق الأوسط.
وفيما يخص الإتحاد الأوروبي، فيقتصر دوره على الدعم للحكومة الجديدة بهدف ضمان استمرار تدفق النفط اليه،
وكانت مسودة إعلان اطلعت عليها وكالة “رويترز” قد أظهرت أن الاتحاد الأوروبي يعتزم تعليق بعض العقوبات المفروضة على سوريا، والتي تشمل مجالات الطاقة والنقل وإعادة الإعمار، إلى جانب تسهيل التحويلات المالية والمصرفية المرتبطة بتلك المجالات.
وتشير المسودة إلى أنه في إطار نهج تدريجي، سيتم تقييم ما إذا كان سيتم تعليق مزيد من الإجراءات التقييدية في خطوة مقبلة.
روسيا تعرض تقديم الدعم للشعب السوري
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أجرى اتصالا هاتفيا مع الرئيس الانتقالي في سوريا أحمد الشرع.
وبحسب الكرملين، أكد بوتين في حديث مع الشرع على موقفه المبدئي الداعم لوحدة وسيادة وسلامة أراضي سوريا.
كما أكد على استعداد روسيا الدائم للمساعدة في تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي في سوريا، بما في ذلك تقديم المساعدات الإنسانية لشعبها.
وكان الشرع رحب في وقت سابق بالمفاوضات مع روسيا
تأتي تلك الخطوة في إطار دور روسي فاعل في الشرق الأوسط حيث تمتلك القدرة على التواصل وتقديم الدعم والحيلولة دون نشوب صراعات .
وبينما تستمر هذه الصراعات، يبقى مستقبل سوريا غير واضح، حيث يعتمد نجاح أي جهود لإعادة الإعمار والاستقرار على قدرة الفاعلين المحليين والدوليين على التوصل إلى توافق سياسي يحقق السلام الدائم.