بعد مرور ما يقارب الـ 4 أشهر على سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وما تبعه من تغيرات سياسية وعسكرية في سوريا والمنطقة، لا تزال الأراضي السورية مرتعاً للأنشطة الاستخباراتية التي تنفذها العديد من الدول داخل الجغرافيا السورية منذ بداية الثورة في 2011 وحتى الوقت الحالي.
وبحسب تقارير استخباراتية فقد ساعدت الأزمة السورية المستمرة منذ 14 عاماً على انتهاك السيادة السورية وتفلت الحدود أمام التنظيمات الإرهابية والتدخلات الخارجية وانخراط العديد من الدول وأجهزة مخابراتها بشكل مباشر وغير مباشر في الصراع الدائر في البلاد.
التقرير يشير إلى تصاعد النشاط البريطاني في سوريا بعد ما سُمّي بـ”سقوط نظام الأسد”، وهو تعبير ما يزال محل جدل سياسي واستراتيجي، إلا أن المؤكد هو أن هناك مرحلة جديدة تُرسم في سوريا، تحاول فيها الأطراف الفاعلة – لا سيما بريطانيا – تثبيت موطئ قدم أكثر وضوحاً، وإنْ ظل سرياً في أغلبه.

وبحسب تصريحات خاصة لـ “رامي زهدي” خبير الشؤون الدولية، ونائب رئيس مركز العرب للدراسات الإستراتيچية لمركز “المستقبل”، نشاط بريطانيا لا يخرج عن الإطار التقليدي لتحركات أجهزة الاستخبارات الكبرى: العمل عبر الوكلاء، جمع المعلومات، صناعة الفاعلين المحليين، واستثمار الانقسامات، وكل ذلك يتم في بيئة هشة ومعقدة مثل سوريا، حيث تتداخل الجغرافيا والسيادة والولاءات.
لماذا بريطانيا الان؟
ويجيب رامي زهدي عن هذا التساؤل مرجاءا الاجابة الى عدة عوامل، أبرازها غياب التنافس الأمريكي المباشر في شرق سوريا بعد انشغال واشنطن بجبهات عالمية أخرى مثل أوكرانيا وتايوان، علاوة على تبدّل موازين القوى بعد سقوط دمشق بيد المعارضة، إذا صدّقنا هذا السيناريو، فإن الفراغ الاستراتيجي يتطلب فاعلاً غربياً يعيد تشكيل المشهد، ولو من الخلف.
كما اوضح رامي أن عودة لندن إلى الشرق الأوسط بمظهر مختلف: ليس بالاحتلال أو التدخل العسكري المباشر، بل من بوابة حقوق الإنسان، ودعم الأقليات، ومكافحة الإرهاب، مضيافاً إن تزايد الدعم البريطاني لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) يحمل دلالات استراتيجية عميقة
إضعاف تركيا عبر خصومها المحليين
واستطرد زهدي في حديثه الخاص قائلا، قسد هي العدو الأول لأنقرة في شمال سوريا، والدعم الاستخباراتي والعسكري لها هو استهداف غير مباشر للأمن القومي التركي.
واضاف رامي أن صناعة كيان سياسي-عسكري كردي موالٍ للغرب، في ظل ضعف الحكومة المركزية السورية، تهدف من خلالها لندن لتكرار سيناريو إقليم كردستان العراق، مع اختلافات ضرورية تتعلق بالامتداد الجغرافي والتوازنات الدولية.
واشارا إلى ان من ضمن الاهداف هو ابتزاز سياسي لتركيا، خاصة في ملفات أخرى مثل عضوية السويد في الناتو، أو العلاقات مع روسيا، حيث يمكن استخدام الورقة الكردية للضغط.
واوضح زهدي ان تبعات ذلك على المصالح التركية وتتمثل في؛ تهديد مباشر للأمن القومي التركي على طول الحدود الجنوبية، بالإضافة إلى إعادة إشعال جبهات في حلب والحسكة والرقة، تُرهق الجيش التركي وحلفاءه من فصائل المعارضة.
وأفاد الخبير الاستراتيجي ان الهدف من ذلك ايضاً تقويض النفوذ التركي في الملف السوري لصالح إعادة تدوير الحضور الأوروبي (البريطاني خاصة).
استفزاز داخلي تركي: إذ قد يُنظر إلى دعم لندن لقسد كاصطفاف ضد وحدة الأراضي التركية نفسها في ظل الحساسية القومية الكردية.
وتابع زهدي، وبصفة عامة فإن القراءة الاستراتيجية الأوسع تشير الي ان التحرك البريطاني هو جزء من مشهد أوسع لتحولات ما بعد الحرب السورية، ويمكن قراءته في سياق:
إعادة ترتيب الشرق الأوسط وفق خرائط مصالح جديدة بين الفاعلين الدوليين.
واوضح امي ان أوروبية تحاول الحفاظ على موطئ قدم في سوريا، بعد أن تراجع الدور الفرنسي واحتكر الروس والإيرانيون القرار العسكري والسياسي لسنوات.
واشار الخبير الاستراتيجي ان هذه الامور تعد إشارات لتقسيم فعلي أو ناعم لسوريا على أسس عرقية وطائفية، بما يهدد وحدة الكيان السوري، ويمتد ليهدد دول الجوار، وخاصة تركيا والعراق.
وختتم رامي زهدي كلامه قائلا، إن سوريا اليوم تتحول إلى ساحة صراع “بارد” بين قوى كبرى تعيد رسم النفوذ. بريطانيا، عبر قسد ومسد، تحاول أن تستعيد شيئاً من ماضيها الإمبراطوري بوسائل جديدة. وفي مقابل هذا إن استمرار هذا التموضع البريطاني يغير كثيرا في ميزان القوي.
بدعم “قسد”.. بريطانيا تسجل موقفاً ضد المصالح التركية
في سياق ذو صلة، انتشرت في الأشهر القليلة الماضية بعض التقارير والمعلومات التي تشير إلى استمرار الدعم البريطاني لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تسيطر على المناطق الأغنى في شرق وشمالي شرق سوريا، ضد الإدارة السورية الجديدة.
حيث كشف السياسي البريطاني وعضو البرلمان السابق بيتر هين في تغريدة له عبر منصة “أكس”، عن لقاء مرتقب بين قيادات كردية ومستشارين بريطانيين في العاصمة الأردنية قريباً لدعم فصل كردستان سوريا عن دمشق.
وبحسب هين، فإن اللقاء سيجمع بين وزير الدولة البريطانية لشؤون الشرق الأوسط هيمش فولكنر، وقائد قوات سوريا الديمقراطية الجنرال مظلوم عبدي.
وكان هين، قد أكد في تصريح سابق له في يناير الماضي، بأن الأكراد في سوريا يتعرضون للهجوم من الجهاديين داخل سوريا، ومن تركيا أيضاً وعلى المملكة المتحدة ضمان حمايتهم وحماية حقوقهم، مشيراً إلى أهمية حماية حقوق جميع الطوائف في سوريا.
وقال هين في تصريح يعتبر تدخل واضح بالشؤون التركية: “من المهم للغاية إعادة إرساء التقاليد الديمقراطية في تركيا واحترام حقوق جميع مكوناتها”.
بالإضافة للدعم السياسي.. دعم عسكري واستخباراتي بريطاني لـ “قسد”
في سياق متصل، نقلت بعض وسائل الإعلام في فبراير الماضي معلومات حول تنفيذ طائرة “ريبر” التابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني ضربة دقيقة أودت بحياة أحد قياديي تنظيم “داعش” الإرهابي الموجودين مع فصائل إسلامية أخرى في ريف حلب شمال سوريا.
إلى جانب ذلك، منذ انطلاق عملية “ردع العدوان” التي أسقطت نظام الأسد ومكّنت فصائل المعارضة السورية المدعومة تركياً، بقيادة “هيئة تحرير الشام” من السيطرة على دمشق، وقعت اشتباكات كثيرة، بينهم وبين قوات “قسد” بعدة مناطق شمال شرق سوريا.
حيث تداول نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، في يناير الماضي، مقاطع مصوّرة تُظهر آليات تابعة لإدارة العمليات العسكرية، تتحرك باتجاه مناطق سيطرة “قسد” شمال شرقي سوريا. توترات أمنية مستمرة حتى الآن بين الطرفين، رغم الاتفاق الشكلي الذي تم توقيعه بين قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي والرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع. ولاتزال بين الحين والأخر، تحصل مواجهات عنيفة بين قوات “الجيش الوطني” المدعوم من أنقرة، و “قسد” في عدة محاور شرقي حلب وتوقع خسائر بشرية من الطرفين.
وبحسب مصادر عسكرية ميدانية كردية، فإن مقاتلي “قسد” بريف حلب يتلقون دعم استخباراتي بريطاني كبير ساعدهم على الصمود بوجه “داعش” سابقاً وبوجه الفصائل المدعومة من تركيا حالياً، كما ساهم بنصب كمائن لهم، وتكبيدهم خسائر فادحة. وبحسب المصدر هناك تنسيق أمني ومعلوماتي بين الاستخبارات الغربية والبريطانية وقوات “قسد” بشكل مستمر.
وهذا ما مكّن قوات “قسد” من اعتقال عناصر من الجيش الوطني خلال معارك ريف حلب في يناير الماضي، وتدمير عدد كبير من الآليات العسكرية التابعة للمعارضة، حيث لعب الإسناد المعلوماتي التي نفذته MI6 دوراً كبيراً بما حققته “قسد”.
وبعد تصريح قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي حول امتلاك “قسد” للمسيرات، رجح كثير من المراقبين للشأن بأن يكون هناك خبراء انكليز وغربيين قاموا بتدريب عناصر “قسد” على استخدامها.