نشر المنتدى الرقمي لشبكة بناء السلام الأفريقية (APN) التابع لمجلس البحوث في العلوم الاجتماعية (SSRC)
مقالاً بعنوان: هل العلاقات بين الولايات المتحدة وأفريقيا عند مفترق طرق: ماذا يعني ذلك بالنسبة لأفريقيا؟
وهو بقلم البروفيسور تشارلز أوكيجي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أوبافيمي أوولوو، في نيجيريا. وهو كان قد شغل سابقًا مناصب أكاديمية في قسم التنمية الدولية بجامعة أكسفورد، وفي معهد دراسات السلام والأمن بجامعة أديس أبابا، إثيوبيا. كما شغل منصب الباحث الرئيسي في منحة مجموعة العمل التعاونية (CWG) التابعة لشبكة آسيا والمحيط الهادئ (APN) للفترة بين عامي 2014 و 2016، والممنوحة من مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية (SSRC).
يرى البروفيسور أن العالم يشهد تحولات جيوسياسية بالغة الأهمية، حيث تستعرض القوى الكبرى، إلى جانب عدد متزايد من القوى المتوسطة، قوتها لتحقيق مصالح اقتصادية وجيوسياسية استراتيجية عالمياً وفي أفريقيا، اذ أن هناك تحولات كبيرة في السياسة الخارجية الأمريكية ومصالحها الجيوسياسية عالميا حدثت خلال فترة وجيزة، لا سيما تجاه أفريقيا، وذلك منذ تنصيب الرئيس دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الاميركية. ويتعلق أحد الأسئلة الرئيسية التي تطرحها هذه التحولات بمكانة أفريقيا ووضعها الحالي في سياق الحسابات الجيوسياسية الحالية في واشنطن. كما ويُطرح سؤال حول كيف ينبغي للولايات المتحدة أن تتفاعل مع أفريقيا، والعكس صحيح، وما هي تداعيات التحولات الجارية في أفريقيا نفسها على ديناميكيات العلاقة بين الطرفين. وفي ظل ذلك يرى الكاتب أنه من الضروري عدم تعميم التجارب الأفريقية في بعض الدول على باقي الدول في القارة، ان تأخذ سياسة واشنطن بعين الإعتبار خصوصية كل بلد أفريقي:
“يجب توخي الحذر الشديد وعدم تعميم التجارب الأفريقية، وخاصةً فيما يتعلق بدوافع ونتائج العمليات الديمقراطية الجارية حاليًا في القارة. ففي استطلاع رأي أُجري في 39 دولة أفريقية حول التطلعات الديمقراطية للمواطنين الأفارقة خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، على سبيل المثال، أشار أفروبارومتر إلى أن عددًا متزايدًا من المواطنين الأفارقة يُظهرون تفضيلًا للحكم الديمقراطي، على الرغم من أن الكثير من البلدان والمجتمعات تواجه مجموعة متزايدة من التهديدات والتحديات التي من شانها تقليص الاهتمام بمسألة الديمقراطية، وهناك مجموعة من العوامل المؤثرة على مسار الديمقراطية ومحتواها وجودتها في القارة الأفريقية. ويرتبط معظم هذه العوامل بفشل الدول الأفريقية بإيصال ثمار الديمقراطية الموعودة إلى غالبية المواطنين. وتشمل العوامل الأخرى عدم تسامح الأحزاب الحاكمة مع المعارضة، وتقلص مساحة العمل المدني، بالإضافة الى اتساع الفجوة بين قيمة الديمقراطية وما تقدمه في نهاية المطاف للمواطنين”.
ويرى البروفيسور أن الديمقراطية لم يكن لها نماذج ناجحة كثيرة في أفريقيا وأن المواطنين البسطاء في أفريقيا لديهم من الهموم والمشاكل ما يجعل من الديمقراطية بحد ذاتها في ذيل إهتماماتهم اليومية:
“في العقد الماضي وحده، برز عدد قليل من الدول في أفريقيا، مثل موريشيوس والرأس الأخضر والسنغال وبوتسوانا، كنقاط مضيئة في مجال الديمقراطية. لكن يبدو أن غالبية الدول الأفريقية الأخرى إما في حالة جمود أو متأخرة عن الركب من حيث أداء الحوكمة الديمقراطية. وهناك عدة أسباب لذلك، أولها أن القاعدة المادية اللازمة لرعاية الديمقراطية واستدامتها حتى النضج آخذة في التدهور في ظل محدودية الفرص الاجتماعية والاقتصادية التي تتاح للمواطنين، وهو الامر الذي يصل الى حد يكون فيه الطعام هو المسعى والهدف الوحيد للمواطنين، كما وتشهد القارة الأفريقية اليوم فجوة تفاوت متزايدة بين النخبة الصغيرة المرتبطة بالدولة ذات الثراء الفاحش، والغالبية العظمى من المواطنين الذين يعيشون في بؤس وفقر مدقع”.
ويذكر الكاتب عاملاً مهماً وهو انحسار الطبقة الوسطى وتراجع دورها، مما يعني تقليص الشريحة الإجتماعية التي هي قاعدة وأساس للنشاط الديمقراطي في أي بلد:
“هناك تراجع أو حتى شبه إختفاء للطبقة الوسطى في أفريقيا. تاريخيًا، تُعتبر الطبقة الوسطى محرك النمو والتنمية في أي بلد. وبناءً على قدرتها على الابتكار ومدى نجاحها في تموضعها، يمكن للطبقة الوسطى أيضًا أن تُسهم بشكل كبير في تشكيل المسارات الديمقراطية لأي بلد. في أجزاء كثيرة من أفريقيا، تقلصت الطبقة الوسطى بشكل ملحوظ وفقدت حيويتها. فبعد عقود من السياسات الاقتصادية القاسية اجتماعيًا التي فرضتها سلسلة من الأنظمة العسكرية والأنظمة الاستبدادية ذات الحزب الواحد، تُركت الطبقة الوسطى محرومة من القدرة على المساهمة في تغيير حقيقي. وقد ألحقت سنوات من انخفاض قيمة العملات والتضخم والتدهور الاقتصادي ضررًا بالغًا بالطبقة الوسطى. ورغم المرونة الملحوظة التي أظهرها المجتمع المدني الذي تهيمن عليه الطبقة الوسطى في مواجهة التجاوزات الاستبدادية المتزايدة للدولة، فإن مساحة المشاركة المدنية في عمليات الحكم آخذة في التقلص في عدد كبير من الدول الأفريقية”.
وفي ظل هذه الصورة القاتمة يشير البروفيسور الى أن عامة الناس بدأوا بطرح تساؤلات جوهرية حول مدى فائدة الديمقراطية وحول مغزى السعي الى بناء أنظمة ديمقراطية أساساً إن كان هذا الأمر لا يأتي بنتائج إيجابية ملحوظة على المجتمع وعلى حياة الناس اليومية:
“مع تزايد إحباط المواطنين وخيبة أملهم من الوضع الراهن، يطرح العديد من الأفارقة أسئلةً صعبة، مثل: هل الديمقراطية مجرد إلهاء وإضاعة للوقت؟ فلا عجب أن يطالب المواطنون الأفارقة بإلحاح بمزيد من الشفافية من قبل حكوماتهم. ويبدو أن النقاش يدور حول شكليات وشعارات الديمقراطية، أكثر من جوهرها أو قدرتها على مواجهة التحديات الوجودية التي تواجه شعوب القارة. لو طُلب من المواطنين الأفارقة في الشوارع شرح معنى الديمقراطية بالنسبة لهم، لكانت إجاباتهم الآن مختلفة جداً عما كانت عليه قبل عقدين او ثلاثة عقود من الزمن، والسبب الرئيسي لذلك هو اتساع الفجوة بين القيم والوعود التي تدّعيها الديمقراطية وما تقدمه فعليًا للمواطنين، مما يُعزز خيبة الأمل الواسعة النطاق. لا شك اليوم في أن القاعدة المادية للديمقراطية، وترسيخها، آخذان في التقلص مع ازدياد صعوبة الحياة على المواطنين. ومع التضخم والارتفاع الهائل في أسعار السلع والخدمات، مما يجعل الضروريات الأساسية باهظة الثمن ونادرة، تتسع فجوات عدم المساواة باستمرار. وفي بعض الحالات، يؤدي الوصول إلى نقطة الانهيار إلى احتجاجات عنيفة وجرائم”.
ويذكر الكاتب انه من المفارقات أن المواطنين باتوا لا يشككون في شرعية السلطة فحسب، بل يشككون أيضًا في شرعية مؤسسات الدولة، وكذلك المؤسسات الدولية والقارّية بما في ذلك المنظمات الحكومية الدولية مثل الاتحاد الأفريقي والجماعات الاقتصادية الإقليمية، مثل الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس). كانت الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا تُعرف في السابق بأنها الأكثر تقدمية ونموذجًا يُحتذى به بين الجماعات الاقتصادية الأخرى، لكنها تواجه اليوم أسوأ التحديات خلال خمسين عاماً من وجودها، ويرى الكاتب أن هذه المنظمات يجب ان تتفاعل مع الاستياء الشعبي وتعمل على تصحصح سياساتها:
“يجب على الإيكواس والمنظمات الإقليمية الأخرى في أفريقيا إعادة هيكلة نفسها وإعادة تموضعها لتلبية تطلعات مواطني الدول الأعضاء وآمالهم، وذلك للحفاظ على مكانتها في أعينهم. ففي نهاية المطاف، تُدرك معظم الدول الأعضاء في المؤسسات الإقليمية تمام الإدراك أن معظم المشاكل التي تواجهها لا يمكن معالجتها بشكل فردي، بل من خلال جهود متعددة الأطراف. ومع تفاقم آثار تغير المناخ السلبي، والهجرة الموسمية، والتهريب، والاتجار بالبشر، وغيرها من المشاكل، يجب على الجهات الفاعلة الإقليمية أن تُدرك حاجتها إلى جهد جماعي لمواجهتها. ولا يزال للتعددية اليوم، أكثر من أي وقت مضى، مكانة أكبر من أي وقت مضى، لا سيما إذا أقرت بأولوية المواطنين في السلام والأمن والتنمية”.
ثم ينتقل البروفيسور الى الحديث عن أطماع الغرب في افريقيا رغم أنه يطرح الأمر بطريقة دبلوماسية حذرة:
“هناك قلق كبير في أفريقيا من أن وجود الجهات الخارجية الحكومية وغير الحكومية في القارة مدفوعٌ بالسعي إلى تعزيز المصالح الجيوستراتيجية وممارسة النفوذ أكثر من أي سعي لدعم دولةٍ ما في إرساء الديمقراطية وتعميقها. ليس من المستغرب أن القوى الكبرى، وخاصةً الولايات المتحدة، لا تهتم كثيرًا بما إذا كانت قيمة الديمقراطية لا تزال عند مستوى الطموح أو أنها مجرد حالة شكلية في أحسن الأحوال، وذلك طالما استمرت واشنطن، على وجه الخصوص، في تأطير تعاملاتها مع أفريقيا على أساس مصالحها الوطنية والاستراتيجية، وكأن القارة برمتها بمثابة بيدق تحركه الولايات المتحدة على رقعة الشطرنج العالمية لإخضاع منافسينها وخصوصاً الصين وروسيا. لو كان الوضع مختلفًا، وكانت هذه العلاقة قائمة على دعم حقيقي للديمقراطية، لما كانت المنافسة الجيوسياسية مع المنافسين الآخرين بنفس الأهمية”.
ويدعو الكاتب البروفيسور الولايات المتحدة الى تبني سياسة أكثر نضجاً تجاه أفريقيا، وهي دعوة جاءت بوقتها المناسب، على ضوء سياسات إدارة الرئيس الأميركي ترامب العنجهية في العالم والتي أثرت سلبياً حتى على أقرب حلفاء واشنطن في اوروبا.
“يجب على الولايات المتحدة التعامل مع أفريقيا بمزيد من الحساسية، لبناء شراكة حقيقية والسعي إليها بدلًا من المصالح الوطنية الضيقة. لهذا السبب تحديدًا، يطالب الكثيرون في القارة الولايات المتحدة بالتركيز على أفضل السبل لدعم حركات المواطنين المؤيدة للديمقراطية والتنمية، بدلًا من دعم الحكومات والانظمة المنعزلة عن غالبية مواطنيها. لذا، يجب على الولايات المتحدة أن تُفكّر وتتحرك بشكل أكبر لدعم منظمات المجتمع المدني وغيرها من الأنشطة المدنية الميدانية. هذا لضمان فضح الهجمة الاستبدادية الحالية التي تشنها بعض الدول، وإخمادها من جذورها. صحيح أن الفضاء المدني في العديد من الدول الأفريقية يعجّ بالخير والشر والقبيح، ولكن لا يزال هناك عدد قليل جدًا من الجهات الموثوقة للغاية القادرة على العمل كمحاورين نيابة عن المواطنين في التعامل مع الدولة”.
ومن الغريب أن يُطالب البروفيسور إدارة ترامب بالعمل على ضمان حرية الإعلام في أفريقيا، رغم تعرض هذه الإدارة الى الكثير من الانتقاد والشجب بما يتعلق بحرية عمل وسائل الإعلام في الولايات المتحدة نفسها، لكن يبدو أن الكاتب له نظرة تفاؤلية للحياة:
“ينبغي للسياسات الأمريكية أيضًا دعم وسائل الإعلام، كنتيجة طبيعية للحفاظ على قدسية الفضاء المدني ورفاهيته.
يتعرض الفضاء الإعلامي في القارة الأفريقية، كجزء من الفضاء المدني، لهجوم كبير. يمكن للولايات المتحدة أن تتدخل لجعل الحكومات الأفريقية التي تعامل وسائل الإعلام بازدراء أقل إزعاجًا في القيام بذلك. يواجه القضاء في أفريقيا أيضًا تهديدًا مماثلاً بالتلاعب المفرط من قبل السلطة التنفيذية، خاصة في وقت تُربح فيه الانتخابات في المحاكم بدلاً من صناديق الاقتراع. في كلتا الحالتين، قد يكون دعم وسائل الإعلام والسلطة القضائية هو الأمر الذي تحتاجه واشنطن للحد من تجاوزات بعض الحكومات الأفريقية”.
كما ويشير البروفيسور الى أمر هام آخر، وهو أن الولايات المتحدة واوروبا تفقد شرعيتها بما يخص مسألة التكلم بإسم الديمقراطية حول العالم، وذلك نظراً للمشاكل الداخلية في هذه الدول، وتفشي التيارات اليمينية والتوترات التي تشهدها المجتمعات هناك خلال فترة الانتخابات، وهو الامر الذي يصل أحياناً الى عدم إعتراف البعض بنتائج الإنتخابات.
“ليست أفريقيا، بأي حال من الأحوال، الجزء الوحيد من العالم الذي يواجه تحديات صعبة وهامة بما يخض الديمقراطية وحقوق الإنسان، فهناك تحولات مماثلة بعضها خطير وبعضها إيجابي، تتجلى في عدة مناطق أخرى من العالم، بما في ذلك في ما يُسمى بالديمقراطيات المتقدمة والراسخة. ففي أوروبا، على سبيل المثال، شهد العقد الماضي صعود وانتشار الأحزاب السياسية اليمينية والأيديولوجيات المتطرفة، وكراهية الأجانب العنيفة، ومعاداة السامية، وغيرها من أشكال الخطابات المناهضة للسلطة ومؤسساتها التقليدية. ومن النتائج المحتملة لهذه التطورات أن الدول التي كانت تُعتبر في السابق معاقل وشعلة للديمقراطية، تضطر الآن إلى الالتفات إلى الداخل لحل تناقضاتها وتحدياتها الداخلية. وفي الوضع الراهن، قد لا تتمكن الولايات المتحدة ولا حلفاؤها الأوروبيون من لعب دور الشرطيّ الحريص على المسارات والتحولات الديمقراطية في جميع أنحاء الجنوب العالمي، بما في ذلك أفريقيا”.
ويخلص البروفيسور الى نتيجة بديهية مفادها أن الدول الأفريقية يجب أن تكف عن الاعتماد على عواصم العام وخصوصاً واشنطن في حل مشاكلها، بل أن تعتمد على ذاتها وعلى شبكة من العلاقات الدولية المتوازنة:
“لا يكمن مصير أفريقيا الحالي ولامستقبلها في واشنطن أو في أي عاصمة عالمية كبرى أخرى، بل في القارة، التي تتطلع إلى الداخل لحل مشاكلها العديدة. إذا استُخدمت إدارة ترامب الأولى والعديد من الدول الأوروبية التي اتجهت نحو سياسات اليمين المتطرف كمعيار للتنبؤ بما قد يحدث لأفريقيا مستقبلاً، فمن المشكوك فيه أن تتمتع القارة بقيمة جيوستراتيجية كبيرة لدى أي شرطيّ جديد”.
كما ويختم الكاتب مقاله بمجموعة من النصائح للدول الأفريقية:
“نظرًا للتغيرات الجيوسياسية العالمية، ستحتاج الدول الأفريقية إلى إعادة تصميم سياساتها الخارجية لتتماشى مع التحديات والتحولات المحلية في نظام عالمي متطور، حيث تواجه التعددية أخطر تحدياتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ينبغي على الدول الأفريقية الالتزام بتعزيز التضامن وتجديد التعاون فيما بينها وبين الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب الجديدة. ولكن ونظرًا لعدم وجود ضمانات بأن الإدارة الأمريكية الجديدة ستتعامل مع القضايا والتحديات الأفريقية بأي قدر من الإلحاح، فليس أمام الحكومات الأفريقية خيار سوى الاعتراف بأنها أمام حقبة جديدة من العمل الذاتي والإنخراط بالعمل الجماعي على أساس مبدأ وهو: الحلول الأفريقية للمشاكل الأفريقية”.
المصدر:
Is US-Africa Relations at the Crossroads: What does it mean for Africa?