لا تزال التطورات الميدانية في السودان، لاسيما في العاصمة الخرطوم وإقليم دارفور، تحتل صدارة المشهد الإعلامي الإقليمي والدولي، في ظل التصعيد المستمر بين القوات المسلحة السودانية وقوات “الدعم السريع”، وسط مؤشرات على تحوّل نوعي في موازين القوى، عقب إعلان الجيش السوداني عن سيطرته الكاملة على الخرطوم وطرد “الدعم السريع” منها.
تحول ميداني
يمثل التقدم العسكري الأخير للجيش السوداني نقطة تحوّل لافتة في الصراع الذي يدخل عامه الثاني، خاصة بعد السيطرة على مواقع استراتيجية وسط العاصمة، من بينها محيط القصر الجمهوري. ومع ذلك، فإن المعركة على الأرض تبدو جزءاً من مشهد أكثر تعقيداً، يرتبط بحسابات إقليمية ودولية متشابكة.
فبينما يُنظر إلى هذا الصراع في بعده المحلي كصراع على السلطة بين جناحين عسكريين، فإن المعطيات المتوفرة تشير إلى أن التدخلات الخارجية لعبت دوراً مركزياً في تأجيج الأزمة، وإطالة أمدها، وتقويض فرص التوصل إلى تسوية سياسية شاملة.
دور المرتزقة والخبراء الأجانب
حسب مصادر ميدانية وشهادات متقاطعة، فإن قوات “الدعم السريع” تلقت دعماً لوجستياً وعسكرياً من أطراف أجنبية، تُرجِم على الأرض في شكل أسلحة نوعية، وتواجد لمرتزقة وخبراء عسكريين من جنسيات مختلفة، أبرزها أوكرانية. فقد أعلنت “الدعم السريع” بتاريخ 3 أبريل الجاري عن إسقاط طائرة عسكرية من طراز “أنتونوف” شمال دارفور، ونشرت مقاطع مصورة تزعم أنها لحطام الطائرة. هذا الإعلان ليس الأول من نوعه، حيث سبق أن أعلنت إسقاط طائرات أخرى خلال الأشهر الماضية، ما يثير تساؤلات حول نوعية منظومات الدفاع الجوي المتوفرة لدى هذه القوات، والجهات التي قامت بتدريبها على استخدامها.
تحدثت مصادر عسكرية مقربة من الجيش السوداني عن العثور على وثائق وأدلة داخل الخرطوم تشير إلى تورط مقاتلين أجانب، بينهم أوكرانيون، في تقديم دعم فني ولوجستي لقوات “الدعم السريع”، مما يعزز من فرضية أن ساحة القتال في السودان تحولت إلى امتداد لحروب النفوذ الدولية.
كييف تبحث عن موطئ قدم في إفريقيا
في تطور لافت يعكس البعد الجيوسياسي للصراع، كشف موقع “Intelligence Online” الاستخباراتي أن المخابرات العسكرية الأوكرانية تسعى للحصول على دعم فرنسي لتنفيذ خطة سرية تهدف إلى تقليص النفوذ الروسي المتزايد في إفريقيا، بما في ذلك السودان. وبحسب التقرير، تحاول كييف توسيع حضورها الاستخباراتي والعسكري في القارة من خلال التعاون مع شركاء أوروبيين، في محاولة لإعادة تموضع استراتيجي في مواجهة موسكو، خصوصاً مع اقتراب جولة جديدة من المحادثات الروسية-الأمريكية.
ما بين الحرب بالوكالة ومخاطر التفكك
تؤكد المستجدات الأخيرة أن الصراع في السودان تجاوز طابعه المحلي، وبات يشكل ساحة جديدة لصراع المصالح بين قوى دولية، في ظل تزايد التنافس على النفوذ في القارة الإفريقية. وإذا ما استمرت التدخلات الخارجية على هذا النحو، فإن احتمالات تفكك الدولة السودانية وتمدد الفوضى الإقليمية ستزداد بشكل مقلق.
تورط خارجي في الحرب السودانية

أكد الدكتور رمضان قرني، خبير الشؤون الإفريقية في تصريحه لمركز “المستقبل”، أن الحرب في السودان، والتي تدخل عامها الثاني، تشهد تورطًا خارجيًا واضحًا، خاصة في دعم ميليشيا قوات الدعم السريع، مما أدى إلى إطالة أمد الصراع. وأشار إلى أن الدعم العسكري الخارجي مكّن هذه القوات من السيطرة على مدن ومواقع استراتيجية، في مشهد وصفه بأنه “حرب بالوكالة”، خصوصًا في ظل العقوبات المفروضة سابقًا على الجيش السوداني فيما يتعلق بالتسليح.
أوضح قرني أن تقارير دولية متعددة – حقوقية وعسكرية وإنسانية – تتحدث عن تورط من 6 إلى 8 دول في إمداد طرفي النزاع بالسلاح والعتاد. ولفت إلى أن قوات الدعم السريع تلقت دعمًا عسكريًا من أطراف خارجية، ساهم في تعقيد الأزمة وزيادة حدتها.
دعم فرنسي غير مباشر عبر تشاد
كشف الخبير الإفريقي عن تورط فرنسي غير مباشر في الصراع، مشيرًا إلى وجود منظومات دفاع جوي فرنسية الصنع بحوزة الدعم السريع. وأوضح أن هذا الدعم وصل عبر وسطاء، وسط تقارير تتحدث عن دور تشادي في تمرير الدعم، خاصة في ظل الروابط العرقية والجغرافية بين الطرفين.
واعتبر قرني أن تحركات فرنسا جاءت في إطار محاولة لتعويض تراجع نفوذها في إفريقيا بعد انسحابها من عدة قواعد استراتيجية.
الدعم السريع ارتكب خطأً استراتيجياً
يرى قرني أن التقدم العسكري الأخير للجيش السوداني جاء نتيجة خطأ استراتيجي ارتكبته قوات الدعم السريع، حين أعلنت عن دستور جديد وحكومة موازية من كينيا، ما أثار غضب الرأي العام السوداني ووحّد القوى السياسية والمسلحة خلف الجيش، خشية تقسيم السودان.
وأشار الخبير بالشؤون الافريقية إلى أن مشروع “الحكومة الموازية” قوبل برفض واسع من الاتحاد الإفريقي، ومجلس السلم والأمن، إضافة إلى دول مثل تركيا والسعودية وقطر والكويت، ورفض غربي من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ما أدى إلى إفشال المخطط.
نجاحات الجيش السوداني واستعادة العاصمة
أشاد قرني بـ”حالة الزخم الشعبي” التي حصلت عليها القوات المسلحة السودانية في الآونة الأخيرة، مشيرًا إلى أن استعادة السيطرة على الخرطوم ومطارها جاء بعد نجاحات متراكمة في ولايات مثل سنار، الجزيرة، وود مدني، ما مهّد الطريق للتقدم داخل العاصمة.
وأكد الدكتور رمضان قرني أن استعادة القصر الجمهوري ومطار الخرطوم يمثلان لحظة مفصلية في مسار الصراع، نظرًا لما يمثله هذان الموقعان من رمزية سيادية مهمة.
المعركة المقبلة كردفان و دارفور
يرى قرني أن المرحلة المقبلة ستشهد تحول العمليات العسكرية نحو إقليم كردفان، حيث تتواجد قوات عبد العزيز الحلو وحركة تحرير السودان المتحالفة مع الدعم السريع. كما ستتجه المعركة إلى الفاشر في دارفور، التي تُعد آخر معاقل الجيش السوداني في الإقليم.
خطر التصعيد الإنساني واستخدام الأرض المحروقة
حذّر الخبير من تصاعد المنحى الإنساني الخطير للصراع، مشيرًا إلى تقارير عن نزوح واسع من مخيمات زمزم وأبو شوك، واستخدام الدعم السريع لـسياسة الأرض المحروقة والتنكيل بالمدنيين، لا سيما في مناطق مثل أم درمان.
كما سلط قرني الضوء على قيام الدعم السريع باستهداف البنية التحتية الحيوية، وأبرزها سد مروي، في محاولة لإفشال مشروعات إعادة الإعمار التي بدأت الحكومة السودانية بالتحضير لها بالتعاون مع مصر، السعودية، تركيا، والصين.
اختتم قرني تصريحاته بالتأكيد على أن الدعم السريع يسعى لمنع الجيش السوداني من تحقيق شرعية الإنجاز عبر إعادة الإعمار، معتبراً أن البنية التحتية ستظل هدفاً رئيسياً لأي تصعيد مقبل.
“الدعم السريع” تترك وثائق تدين الأوكران
في سياق ذو صلة، وبعد سيطرة الجيش السوداني على القصر الرئاسي، تداولت مواقع التواصل الإجتماعي صور مستندات مكتوبة بخط اليد باللغة الأوكرانية وهي عبارة عن توكيل رسمي مكتوب بخط اليد يمنح شخصاً آخر الحق في إستلام مستحقات مالية نيابة عن الموكل، الأمر الذي يعتبره الخبراء دليل أخر يضاف إلى الدلائل السابقة على التواجد الأجنبي للمرتزقة وبالأخص “الأوكران” داخل الأراضي السودانية ومشاركتهم بالقتال إلى جانب قوات الدعم السريع.
وكانت وسائل التواصل الاجتماعي، قد تداولت في وقت سابق، صورا لجثة جندي أوكراني في ود مدني بعد تحرير المنطقة من قبل قوات الجيش السوداني. وبحسب المصادر، فإن الجندي الأوكراني كان من مشغلي المسيرات الإنتحارية، ضمن صفوف “الدعم السريع”.
وبعد سيطرة الجيش السوداني على الكثير من النقاط التابعة “للدعم السريع” خلال الأسابيع الأخيرة من 2024، تم اكتشاف العديد من مخازن الأسلحة التابعة “للدعم السريع” والتي تحوي على أسلحة أجنبية ومسيّرات مقدمة من أوكرانيا، أتت بعد المعارك في محور “ود الحداد”.
وبحسب خبراء عسكريين فإنه على الرغم من الدعم الخارجي الكبير الذي تتلقاه قوات “الدعم السريع” عسكرياً وسياسياً ولوجستياً، إلا أن التقدم الميداني الأخير للجيش في العاصمة ومناطق أخرى يوحي بأن انتصار الجيش السوداني بات قاب قوسين أو أدنى ويرسم ملامح نهاية الحرب، كما أن تقدم الجيش يجري وفق الخطة وبكفاءة عالية.
اعترافات أوكرانية بمشاركة مواطنيها بالحرب
وكان الممثل الخاص لأوكرانيا في الشرق الأوسط وأفريقيا مكسيم صبح، خلال مقابلة له مع صحيفة “العربي الجديد”، في فبراير الماضي، قد صرّح بأن “بعض المواطنين الأوكرانيين يشاركون في الصراع بشكل منفرد، ومعظمهم إلى جانب قوات الدعم السريع، ومعظم المقاتلين الأوكران هم من المتخصصين التقنيين، ” مضيفاً: بأن “أوكرانيا لا تعتبر في الوقت الحالي أي طرف من الأطراف المتحاربة في السودان كياناً شرعياً”. “كما أنها تدعم تشكيل حكومة مدنية مستقلة غير مرتبطة بأي جماعات شبه عسكرية”. معرباً عن استعداد بلاده لأن تصبح مورداً بديلاً للأسلحة للبلدان الراغبة في الدفاع عن سيادتها.
وكان المتحدث الرسمي باسم سلاح الجو الأوكراني إيليا يفلاش، في الـ 7 من يناير الماضي، قد كتب عبر صفحته على فيسبوك، بأن مدربي ومشغلي الطائرات بدون طيار من القوات المسلحة الأوكرانية يقدمون الدعم لقوات “الدعم السريع” بدعوة شخصية من حميدتي. وبحسب يفلاش فإن: “كييف ملتزمة بأكثر من 30 عقدا عسكرياً في أفريقيا، والسودان هو أحد هذه الدول، وتحديداً مع قوات الدعم السريع”
وكانت وسائل الإعلام الأوكرانية وعلى رأسها صحيفة “كييف بوست” منذ مطلع الـ2024، قد نشرت تقارير تؤكد التواجد العسكري الأوكراني في السودان.
وتسبب القتال في السودان في تدمير مناطق كثيرة من الخرطوم وتشريد أكثر من 12 مليون سوداني من ديارهم، فضلا عن معاناة الملايين من الجوع.