خلال الشهر الماضي، تحولت قرى ومدن الساحل السوري إلى مسرح لعمليات قتل جماعي استهدفت المدنيين، غالبيتهم من الطائفة العلوية، وذلك عقب هجمات شنها مؤيدون للرئيس المخلوع بشار الأسد ضد قوات الأمن.
وقد لوحظ أن المسلحين الذين نفذوا المجازر ليسوا من أبناء منطقة الساحل السوري، بل جاؤوا من محافظات أخرى، وحتى من جنسيات أجنبية مثل الأوزبك والشيشان، بالإضافة إلى مقاتلين من آسيا الوسطى. كما برز فصيل “العمشات”، الذي أصبح جزءاً من وزارة الدفاع، كأحد أبرز منفذي المجازر وعمليات النهب.
نحو 50 لاجئاً يفرون إلى منطقة بيرم الروسية عقب الأحداث
وبحسب ما أوردته قناة “تلفزيون سوريا” نقلاً عن مصادر خاصة، فإن اللاجئين الخمسين كانوا قد قدموا طلبات لجوء قبل وقوع الأحداث في الساحل، وكان من المقرر نقلهم إلى وجهات مختلفة حتى قبل أن تتدخل روسيا، دون أن يكون لهم رأي في اختيار تلك الوجهات. لكن، وبعد اندلاع الأحداث في الساحل السوري، حصلت روسيا على موافقات أمنية لجميع اللاجئين، وقامت بنقلهم إلى منطقة بيرم في روسيا.
من جهة أخرى، ورغم حالة عدم الاستقرار الأمني في سوريا، ألمحت بعض الحكومات الأوروبية إلى وجود حاجة ملحة للتركيز على إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، كجزء من خطط أوسع لإعادة إعمار سوريا. غير أن هذه الدعوات لا تزال محاطة بالكثير من التساؤلات حول جدية الإصلاحات السياسية والأمنية في البلاد. وفي ظل هذا التوجه، يرى البعض وجود تقاطع بين المصالح الأوروبية والواقع الداخلي السوري، ما يشير إلى احتمال أن يكون الضغط على النظام السوري مرتبطاً بملف إعادة اللاجئين، دون الالتفات إلى الجوانب الإنسانية والإصلاحية.
لكن، هل الوضع في سوريا يسمح فعلاً بعودة آمنة للاجئين؟

لقد أكدت العديد من المنظمات الحقوقية أن البلاد لا تزال تشهد انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، منها الاعتقالات التعسفية والتعذيب، إلى جانب استمرار الصراعات في بعض المناطق. كما أن العديد من اللاجئين الذين وصلوا إلى أوروبا يمتلكون مستويات تعليمية عالية ويشغلون وظائف مهمة في مختلف القطاعات، ما يجعل من الصعب عودتهم إلى أوضاع غير مستقرة.
من جانبه، قالت الخبيرة الإستراتيجية في الشأن العربي والأوروبي “ولاء العلي” في تصريحها لمركز “المستقبل”، إن الحديث عن عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم يتطلب نظرة واقعية، في ظل استمرار الانتهاكات على الأرض، معتبرة أن أي نقاش أوروبي حول الإعادة حالياً يفتقر إلى الأسس السياسية والإنسانية اللازمة، نظراً لأن سوريا اليوم ليست بلداً آمناً لعودة اللاجئين.
انتهاكات مستمرة
وأكدت “العلي” أن تدهور الأوضاع الميدانية والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقال التعسفي، والاختفاء القسري، والتجنيد الإجباري، تجعل من دعوات العودة أمراً منفصلاً عن الواقع. وأضافت أن التقارير الصادرة عن منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة تشير إلى أن شروط العودة الطوعية والآمنة والكريمة، كما يحددها القانون الدولي، لم تتحقق بعد.
وأوضحت الخبيرة الإستراتيجية “ولاء العلي” أن الدعوات الأوروبية الحالية تبدو أقرب إلى محاولات سياسية لاحتواء الضغوط الداخلية أكثر من كونها خططاً قابلة للتطبيق.
كما لفتت إلى وجود مؤشرات على تحول تدريجي في السياسة الأوروبية تجاه النظام السوري، إذ بدأت بعض الحكومات تربط عودة اللاجئين بمشاريع إعادة الإعمار، ما يعكس تخفيفاً ضمنياً لموقف القطيعة السابق، في ظل تصاعد الأزمات الاقتصادية والهجرة داخل أوروبا.
وأضافت “العلي” أن هذا التحول الأوروبي يعكس نوعاً من البراغماتية السياسية، حيث بدأت بعض الدول تتعامل بواقعية مع بقاء النظام، في ظل غياب أي بديل سياسي فاعل، إلا أنها شددت على أن هذا لا يعني وجود تطبيع كامل للعلاقات مع دمشق، بل إعادة ترتيب لأولويات السياسة الأوروبية، حيث بات احتواء أزمة اللاجئين يتقدم على الاعتبارات الأخلاقية والسياسية السابقة.
التركي – السوري
كما أشارت إلى أن التقارب التركي-السوري، رغم هشاشته، يثير قلقاً أوروبياً، خصوصاً أن تركيا تعتبر شريكاً محورياً في ملف الهجرة.
وقالت الخبيرة الإستراتيجية “ولاء العلي” إن أي تفاهمات بين أنقرة ودمشق قد تفتح الباب لخطط إعادة قسرية، ما يضع المؤسسات الأوروبية أمام تحديات قانونية وأخلاقية جديدة.
وتطرقت “العلي” إلى التباين في السياسات الداخلية الأوروبية، حيث تبنت دول مثل الدنمارك والنمسا مواقف متشددة بدأت باعتبار بعض المناطق السورية “آمنة”، ما فتح المجال لمحاولات إعادة اللاجئين بصورة أسرع، في حين تتبع دول أخرى كألمانيا والسويد نهجاً أكثر تحفظاً يستند إلى تقييمات حقوقية دقيقة ترفض اعتبار سوريا مكاناً آمناً للعودة حتى الآن.
الدور الروسي
كما لفتت إلى أن الدور الروسي المتزايد في سوريا يشكل عاملاً إضافياً يعقّد حسابات الأوروبيين، حيث يُنظر إلى حماية موسكو لبعض الأقليات كأداة سياسية لتعزيز نفوذها الإقليمي، وليس كمبادرة إنسانية خالصة، مما يزيد من الحذر الأوروبي في التعامل مع ملف عودة اللاجئين.
وختمت الخبيرة الإستراتيجية “ولاء العلي” في تصريحها بالتأكيد على أن الحديث الجاد عن عودة اللاجئين يجب أن يبدأ أولاً بمعالجة الجذور الحقيقية للأزمة، من خلال تحقيق الأمن، واحترام الحقوق، وضمان وجود نظام قانوني وسياسي يحمي العائدين، مشددة على أنه دون هذه الأسس، ستبقى التصريحات السياسية مجرد “حبر على ورق”، فيما تستمر المعاناة السورية في الداخل والخارج.