تسعى الإدارة السورية الجديدة إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة بعد سقوط النظام السابق، وإنعاش الاقتصاد، والانطلاق في عملية إعادة الإعمار. إلا أن هذه الجهود تواجه جملة من التحديات، من أبرزها الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، التي تؤثر سلباً على جهود فرض الاستقرار وتغذي النزعات الطائفية والمناطقية.
تصاعد الضربات الإسرائيلية وسط تنافس إقليمي
يرتبط التصعيد الإسرائيلي في سوريا بالتنافس الإقليمي مع تركيا، حيث تسعى كل من أنقرة وتل أبيب إلى فرض معادلات عسكرية وسياسية جديدة على الأرض. وتبرر إسرائيل ضرباتها الأخيرة بأنها “رسائل تحذيرية” تهدف إلى منع أي تهديد محتمل لأمنها، في إشارة إلى تقارير حول نية تركيا إنشاء قواعد عسكرية داخل سوريا.
استهداف مطارات بعد زيارات تركية
شنت إسرائيل ضربات جوية استهدفت مطار حماة العسكري ومحيط مطار تي-فور (T4) في محافظة حمص، ما أدى إلى تدمير شبه كامل للبنية التحتية في مطار حماة وإصابة عدد من المدنيين والعسكريين. ووفق مصادر ميدانية، جاءت هذه الغارات بعد زيارة وفد عسكري تركي لتفقد الموقعين بهدف تحويلهما إلى قواعد جوية تركية.
تل أبيب تسعى لنزع السلاح جنوب سوريا
تعمل إسرائيل على فرض واقع جديد في الجنوب السوري، وتسعى إلى تحويله إلى منطقة منزوعة السلاح بالكامل. وتشير تقارير إلى أن تل أبيب مارست ضغوطاً على واشنطن لإبقاء سوريا دولة ضعيفة عقب سقوط النظام السابق، واستولت على أراضٍ في الجنوب الغربي، معلنة استعدادها لحماية الأقلية الدرزية، ورافضة أي وجود لقوات الأمن السورية الجديدة قرب حدودها.
أنقرة تعزز وجودها العسكري والاقتصادي
تحتفظ تركيا بعلاقات قوية مع الإدارة السورية الجديدة، وتسعى إلى تعزيز حضورها في ملفات الإعمار والتعاون في مجالات الطاقة والدفاع. كما تعمل أنقرة على إعادة انتشار قواتها داخل الأراضي السورية ضمن اتفاق دفاع مشترك قيد البحث، يهدف إلى التصدي للتهديدات الأمنية المشتركة، وعلى رأسها نشاط تنظيم الدولة وبقايا النظام السابق.
تصعيد إقليمي يحمل أبعاداً دولية
يحذر مراقبون من أن تصاعد التوتر بين تركيا وإسرائيل داخل الأراضي السورية قد يؤدي إلى أزمة إقليمية ذات تداعيات دولية، لا سيما في ظل عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي ومنظمة التعاون الإسلامي، مقابل التحالف الاستراتيجي الوثيق الذي يجمع إسرائيل بالولايات المتحدة والدول الغربية.
دعوات للوساطة الدولية وضبط التوازن
يرى محللون أن احتواء التوتر بين أنقرة وتل أبيب يتطلب وساطة دولية من طرف يتمتع بعلاقات جيدة مع الجانبين ومع الإدارة السورية الجديدة. وتُطرح روسيا كمرشح رئيسي لهذا الدور، في ظل وجودها العسكري المستمر داخل الأراضي السورية، وتفاهماتها القائمة مع الطرفين.
موسكو تسعى لتحقيق توازن نفوذ في سوريا
تحتفظ روسيا بعلاقات متوازنة مع كل من تركيا وإسرائيل، رغم تباين مصالحها معهما في بعض الملفات. وتشير تقارير إعلامية إسرائيلية، من بينها تقرير لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، إلى أن تل أبيب تعمل على تعزيز علاقاتها مع موسكو بهدف الحد من نفوذ أنقرة في سوريا، وتفضّل النفوذ الروسي على التوسع التركي في الأراضي السورية.
التعاون الروسي التركي ينعكس على الملف السوري
تشهد العلاقات التركية الروسية تقارباً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، انعكس بشكل مباشر على التنسيق داخل سوريا. ومن أبرز مظاهر هذا التعاون عملية أستانا، التي انطلقت عام 2017 وأسهمت في تقليص حدة العنف، وتثبيت خطوط التماس، وتسهيل انتقال الفصائل المسلحة إلى مناطق خفض التصعيد، خاصة إدلب. كما نفذت قوات البلدين دوريات مشتركة في عدة مناطق شمالية.
روسيا تؤكد دعمها للحوار وإعادة الإعمار
أكدت روسيا مراراً في المحافل الدولية استعدادها للمساهمة في دعم الحوار السوري الداخلي والمساهمة في المرحلة الانتقالية، واستخدام نفوذها داخل مجلس الأمن الدولي لرفع العقوبات عن سوريا. كما عبّرت عن استعدادها للمشاركة في إعادة تأهيل البنية التحتية، وتطرقت إلى إمكانية إعفاء دمشق من ديون سابقة ضمن جهود دعم الاقتصاد السوري.
شراكة اقتصادية وإنسانية بين موسكو ودمشق
تتجه موسكو ودمشق نحو شراكة عملية قائمة على المصالح المشتركة، حيث توفر روسيا مساعدات إنسانية، وتورّد القمح والوقود والعملة المحلية إلى سوريا. كما تساهم في جهود تحسين الوضع المعيشي، بالتوازي مع دعم سياسي يهدف إلى الحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها.
روسيا لاعب دولي وإقليمي كبير لكن دورها محدود في الوساطة بين تركيا وإسرائيل

وفي هذا السياق صرّح الدكتور حكم أمهز، الخبير في الشؤون الإقليمية والدولية لـ “مركز المستقبل”، أن روسيا تُعدّ لاعبًا محوريًا على الساحة الدولية والإقليمية، نظرًا لكونها من الدول العظمى التي تملك تأثيرًا مباشرًا في العديد من الملفات الجيوسياسية، ومنها الملف السوري. لكنه أشار إلى أن هذا التأثير لا يمنحها بالضرورة القدرة على لعب دور ضامن أو وسيط رئيسي في العلاقة بين تركيا وإسرائيل، لأن كلا الطرفين – أنقرة وتل أبيب – يرتبطان بعلاقات استراتيجية عميقة مع الولايات المتحدة الأميركية.
وأوضح أمهز أن إسرائيل تُعد حليفًا استراتيجيًا وعضويًا للولايات المتحدة، فيما تُعد تركيا شريكًا استراتيجيًا أيضًا، رغم التوترات أحيانًا في الخطاب السياسي. واستشهد في هذا السياق بتصريح سابق للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب خلال مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حين قال له مشيرًا إلى الرئيس التركي: “أنا أحب هذا الرجل”، في إشارة إلى رجب طيب أردوغان، وطلب منه التفاهم معه في الملف السوري، وكأنه يبارك لأردوغان السيطرة على الملف السوري.
الدور التركي في إسقاط النظام السوري… وتنفيذ مخططات أميركية وإسرائيلية
بحسب حكم، فإن التخطيط لإسقاط النظام السوري كان أميركيًا – إسرائيليًا، لكن التنفيذ جاء عبر الأدوات التركية، وذلك من خلال الفصائل المسلحة والجماعات التي تأتمر بأوامر أنقرة. ويضيف أن تركيا لعبت الدور الأبرز في تنفيذ هذا المخطط ميدانيًا، بينما كان الدعم السياسي والإعلامي من الولايات المتحدة وإسرائيل.
الوجود الروسي في سوريا… حماية للعلويين وضبط للتوازنات
وفيما يخص التواجد الروسي في سوريا، يرى الدكتور أمهز أن النفوذ الأمني الروسي في البلاد يتفرع من نقطتين أساسيتين: الأولى هي وجود القواعد العسكرية الروسية، والثانية هي السيطرة غير المُعلنة ولكن المفهومة على الساحل السوري، والذي يُعد بحكم الأمر الواقع منطقة محسوبة على النفوذ الروسي. وأشار إلى أن أي قرار روسي بحماية العلويين من المجازر التي لحقت بهم كان سيعني تقسيمًا فعليًا لسوريا، وهو ما لم تذهب إليه موسكو، في إشارة إلى أنها لم تكن تسعى لتقسيم سوريا، بل عملت على تسوية الأوضاع في مناطق التوتر.
كما أكد أن روسيا لو أرادت زعزعة الاستقرار في سوريا، فإنها قادرة على ذلك، نظرًا لما تملكه من معرفة دقيقة بالأرض السورية، وخبرات تاريخية مع نظامي حافظ وبشار الأسد، إضافة إلى حلفاء وأصدقاء موزعين في مختلف المناطق السورية، لكن موسكو لا تسعى إلى الفوضى، بل إلى الحفاظ على وحدة سوريا كدولة موحدة غير مقسمة.
إعادة الإعمار: العلاقات بين روسيا والنظام السوري تقوم على الأمر الواقع
أشار الدكتور أمهز إلى أن الحديث عن رهان سوري على موسكو في ملف إعادة الإعمار يجب أن يكون أكثر واقعية، لأن روسيا حتى الآن لم تُصنّف فعليًا كـ”حليف رسمي” للنظام السوري الجديد بعد الحرب، بل تقوم العلاقة بين الطرفين على الأمر الواقع. روسيا دولة كبرى، نعم، ولها وزن إقليمي، لكن هذا لا يعني أنها اللاعب الوحيد أو الأوحد في تحديد مسار الإعمار في سوريا.
علاقات موسكو بأنقرة وتل أبيب… مصالح متشابكة ولكن غير متطابقة
أوضح أمهز أن العلاقات بين روسيا وتركيا قد أثمرت في مراحل سابقة، خاصة خلال مفاوضات أستانا، حيث ساهم التنسيق الروسي التركي في تهدئة الأوضاع إلى حدّ كبير، بل ووقف الحرب الشاملة التي كادت تدمر سوريا بالكامل. غير أن المتغيرات الحالية، بحسب د. أمهز، تشير إلى تراجع واضح في حجم المشتركات بين الطرفين مقارنةً بما كانت عليه في السابق.
وطرح الخبير في الشؤون الإقليمية والدولية، تساؤلًا مهمًا حول ما إذا كان الدور الروسي في سوريا ما زال مسموحًا به أميركيًا أو تركيًا، موضحًا أن المشهد الحالي يشير إلى نوع من “التحالف العملي” بين تركيا، أميركا، إسرائيل، وبعض الدول العربية فيما يخص مستقبل سوريا، ما يجعل من الصعب على روسيا أن تلعب دورًا محوريًا كما كانت في السابق.
الدور الروسي في سوريا: محدود ولكن يمكن أن يتغيّر
يرى الدكتور أمهز أن الدور الروسي في سوريا حاليًا هو دور محدود نسبيًا، إلا إذا طرأ تطور عسكري كبير قلب المعادلة، كأن يحصل – لا قدر الله ، تقسيم رسمي لسوريا، وتكون للروس حصة في الساحل الغربي. حينها، سيكون لموسكو دور فعّال ومؤثر، لكنه حتى الآن يبقى محصورًا، وتحت رقابة وتوازنات إقليمية ودولية دقيقة.
العلاقات الروسية التركية: شريك ضروري للاستقرار
ختم الدكتور أمهز تصريحه بالتأكيد على أن العلاقات بين موسكو وأنقرة تظل مؤثرة جدًا على ملف الاستقرار السوري، وكذلك على وحدة الأراضي السورية. لكنه أشار إلى أن تضارب المصالح بين أي بلدين، حتى وإن كانا شريكين في بعض الملفات، أمر طبيعي، وأنه من غير الممكن أن تتطابق مصالح دولتين بالكامل. ورغم تراجع نقاط الالتقاء بين موسكو وأنقرة، فإن الحفاظ على مستوى معين من التنسيق يظل ضروريًا لمنع انفجار الوضع مجددًا في الداخل السوري.