يشهد المشهد السياسي الليبي تصاعدًا ملحوظًا في الدعوات لمحاسبة منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) والدول الغربية ولا سيما المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا ، على المستويين القانوني والأخلاقي، بسبب التدخل العسكري الذي قادته هذه الدول في ليبيا عام 2011. وقد أدى هذا التدخل إلى انهيار الدولة، وتدمير واسع للبنية التحتية، وتداعيات إنسانية واقتصادية خطيرة ما زالت البلاد تعاني منها حتى اليوم.
المركز الأوروبي: الناتو مسؤول ويجب أن يدفع تعويضات
في تقرير نشره المركز الأوروبي للدراسات السياسية والاستراتيجية على موقع “الساعة 24″، أكد الباحثون أن تدخل الناتو في ليبيا عام 2011 تسبب في تدمير واسع للبنية التحتية، وتصاعد الأزمات الأمنية والإنسانية، وجعل من ليبيا ساحة صراع إقليمي ودولي. ودعا التقرير حلف الناتو إلى تحمل المسؤولية القانونية وتقديم تعويضات عادلة للشعب الليبي، كخطوة ضرورية نحو إعادة بناء الثقة بين ليبيا والمجتمع الدولي.
كما دعا المركز إلى الإفراج عن الأصول الليبية المجمدة في البنوك الأوروبية – التي تقدر بأكثر من 200 مليار دولار – مشيرًا إلى أن استثمار هذه الأموال في إعادة إعمار ليبيا سيكون خطوة إصلاحية كبرى.
مطالب محلية: الليبيون يستحقون التعويض
صرّح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى فتوري، المتحدث باسم “جمعية ضحايا حرب الناتو على ليبيا”، قائلاً: “لقد اتخذنا إجراءات قانونية ضد دول الناتو بسبب سفك دماء الشعب الليبي”.
وأضاف فتوري: “تولى الناتو العمليات التي بدأت بها فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة في 19 مارس 2011، واستلم رسميًا قيادة العمليات في ليبيا في 31 مارس، بما في ذلك فرض منطقة حظر الطيران”.
وتابع: “بين 20 يونيو وأكتوبر 2011، قمنا بتوثيق مقتل ما بين 250 إلى 403 مدنيين على يد الناتو. وقد وثقت جمعيتنا هذه الخسائر، كما انضممنا إلى منظمة Airwars غير الربحية التي توثق الضحايا المدنيين في الحروب”.
وختم فتوري: “أصغر ضحية كانت طفلة رضيعة تبلغ من العمر نحو أربعة أو خمسة أشهر، قُتلت في 20 يونيو 2011. وقد اعترفت الدنمارك ودولتان أخريان مؤخرًا بإمكانية مسؤوليتها عن مقتل مدنيين في ليبيا”.
باحث: التدخل الفرنسي والإيطالي استهدف الاتفاقيات الاقتصادية الليبية
وفي سياق منفصل، بثت قناة “الجماهيرية” الليبية تصريحات للمحلل السياسي محمد صادق، أشار فيها إلى أن التدخل الفرنسي والإيطالي كان يهدف بشكل خاص إلى تقويض الاتفاقيات الاقتصادية السابقة مع ليبيا – مثل اتفاقية ليبيا-إيطاليا لعام 2008. واعتبر أن الغارات الجوية لم تكن تهدف إلى حماية المدنيين، بل تسببت في خسائر بشرية ومادية جسيمة. وشدد على ضرورة تحميل الناتو مسؤولية تكاليف إعادة الإعمار.
مليارات مجمدة وسط تصاعد المطالب بالإفراج عنها
سلّط تقرير لقناة “ليبيا بانوراما” الضوء على قضية الأصول الليبية المجمدة في الخارج، مشيرًا إلى أن قيمتها تبلغ مئات المليارات من الدولارات، وموزعة على بنوك أوروبية وأمريكية. وعلى الرغم من أن هذه الأموال تعود للشعب الليبي، إلا أنها ما تزال مجمدة بموجب العقوبات الدولية المفروضة منذ عام 2011.
ويرى مراقبون أن هذه الأموال يجب أن تُفرج بإشراف ليبي خالص، وفي إطار خطة شفافة لإعادة الإعمار والتنمية، بدلاً من استخدامها كورقة مساومة سياسية أو لتعويض أطراف لا علاقة لها بمعاناة الليبيين.
رفض ليبي قوي لمحاولات أجنبية لاستغلال الأموال المجمدة
في هذا السياق، ردّ حزب “صوت الشعب” على نقاشات دارت في مجلس اللوردات البريطاني حول استخدام الأصول الليبية المجمدة لتعويض ضحايا الجيش الجمهوري الإيرلندي، وأصدر بيانًا شديد اللهجة أدان فيه هذه التحركات البريطانية، واعتبرها “محاولة لنهب ثروات ليبيا وابتزاز سياسي غير مقبول”.
وأكد الحزب أن هذه الخطوات تتجاهل مسؤولية بريطانيا التاريخية في تقويض الدولة الليبية من خلال دعم تدخل الناتو، مشددًا على أن الشعب الليبي هو الضحية الحقيقية للعدوان الغربي، ويجب تعويضه وليس معاقبته.
إلى جانب موقف الحزب، صدر رفض رسمي ليبي من خلال بيان لرئيس لجنة التحقيق في الأموال الليبية المجمدة بالخارج بمجلس النواب الليبي، يوسف العقوري، حيث حذّر من أي محاولات لاستخدام هذه الأصول خارج الأطر القانونية، لا سيما أن قراري مجلس الأمن رقم 1970 و1973 لعام 2011 يحظران استخدام هذه الأموال.
وأكد العقوري: “نرفض أي انتهاك للقانون الدولي من قبل بريطانيا أو أي دولة أخرى، وسنواجه أي محاولة للعبث بثروات الشعب الليبي، التي تبقى ملكًا حصريًا له. وأي تحرك في هذا الاتجاه سيقابل بردود قوية لحماية حقوق الليبيين”.
الحصانات الدولية تعيق مساءلة الناتو… رغم مشروعية المطالب الليبية
صرّحت الخبيرة الإستراتيجية في الشأن العربي والأوروبي، ولاء العلي، بأن تصاعد الأصوات الليبية المطالِبة بالمحاسبة والعدالة منذ تدخل حلف الناتو في ليبيا عام 2011، يعكس حالة من الغضب الشعبي المشروع، إلا أن هذه المطالب، رغم مشروعيتها الأخلاقية والسياسية، تصطدم بعقبات قانونية دولية تحول دون ترجمتها إلى إجراءات ملموسة.
أكدت العلي أن حلف الناتو تحرّك في 2011 بناء على تفويض من مجلس الأمن الدولي بموجب القرار 1973، وهو ما يوفر له غطاء قانونيًا يصعّب مساءلته أمام المحاكم الدولية.
وأوضحت الخبيرة الإستراتيجية في الشأن العربي والأوروبي أن الحصانات السيادية والقيود المفروضة على محاسبة الكيانات الدولية تمثل تحديًا رئيسيًا، رغم وجود بعض السوابق القانونية، مثل محاولات مساءلة الولايات المتحدة عن غزو العراق، أو إسرائيل عن انتهاكاتها في لبنان وغزة، إلا أن تلك المحاولات غالبًا ما انتهت إما بالفشل أو عبر مسارات غير قضائية كالتقارير الأممية أو الضغوط السياسية.
استعادة الأصول الليبية المجمدة: التعقيد القانوني والسياسي يطغى على المبادئ
وفيما يخص الأصول الليبية المجمدة في الخارج، شددت العلي على أن ليبيا تمتلك مبدئيًا الأدوات القانونية والدبلوماسية للمطالبة باستعادتها، خاصة في حال وجود حكومة موحدة تحظى باعتراف دولي، إلا أن الانقسامات الداخلية، وضعف المؤسسات الرسمية، إلى جانب الهواجس الأوروبية من إمكانية توجيه هذه الأموال نحو أطراف مسلحة، كلها عوامل تضع عراقيل كبيرة أمام الإفراج عنها، كما أن بعض هذه الأصول بات مرتبطًا بقضايا تعويض دولية معقدة، ما يزيد من صعوبة الحسم القانوني فيها.
الموقف الأوروبي من التعويض وإعادة الإعمار: غياب الإرادة الجماعية
وحول مواقف العواصم الأوروبية من تصاعد المطالب الليبية بالتعويض وإعادة الإعمار، أوضحت الخبيرة الإستراتيجية في الشأن العربي والأوروبي، أن الرد الأوروبي يتراوح حتى الآن بين التجاهل الدبلوماسي والتحركات الرمزية.
وأشارت إلى أن الملف الليبي يُدار في أوروبا غالبًا من زاوية أمنية ومهاجراتية بحتة، بعيدًا عن الاعتراف الكامل بالمسؤولية التاريخية والأخلاقية عن نتائج التدخل العسكري.
وأضافت أن بعض الدول، مثل إيطاليا وفرنسا، بدأت خلال السنوات الأخيرة في تقديم مبادرات تنموية محدودة، أو المشاركة في مشاريع ترميمية داخل ليبيا، إلا أن هذه التحركات لا تزال بعيدة كل البعد عن مستوى التعويض العادل والمطلوب، ولا تعبّر عن موقف أوروبي موحد.
الحل الليبي يبدأ من الداخل… وتوحيد الجبهة السياسية أولوية قصوى
وختمت العلي تصريحها بالتأكيد على أن ليبيا اليوم بحاجة ماسة إلى وحدة سياسية داخلية وتشكيل جبهة دبلوماسية موحدة، يمكن من خلالها تدويل ملف التدخل العسكري وإعادة فتح ملف الأصول المجمدة.
كما دعت إلى ربط هذه القضايا بشكل واضح بمطالب التنمية المستدامة وإعادة الإعمار، مؤكدة أن ذلك فقط هو ما سيدفع أوروبا إلى الاستماع