أثر استمرار الصراع الروسي الأوكراني على العلاقات بين موسكو والعالم العربي: منظور استراتيجي اقتصادي

في خضم الصراع الروسي الأوكراني، يقدم مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية وتقييم المخاطر، دراسة تحليلية حول العلاقة بين موسكو والعالم العربي، بما فيها العلاقات السياسية والاقتصادية وغيرها.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل التغيرات الجوهرية في العلاقات بين روسيا والدول العربية على خلفية استمرار العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وتأثير ذلك على التعاون الاقتصادي والسياسي. تتناول الورقة تأثيرات الصراع على التجارة، والاستثمار، وأمن الطاقة، بالإضافة إلى تحليل المواقف السياسية المتباينة للدول العربية تجاه روسيا. تعتمد الدراسة على تقارير وتحليلات حديثة صدرت خلال الشهر الأخير من مؤسسات بحثية روسية وغربية، وتركز بشكل خاص على ديناميكيات التعاون الاستراتيجي في قطاعات الطاقة والغذاء والتقنيات العسكرية والمدنية.

أولاً:
منذ فبراير 2022، غيرت العملية العسكرية الروسية الخاصة كما تسميها موسكو شكل النظام الدولي، حيث أوجدت موازين قوى جديدة ودفعت روسيا إلى تعزيز علاقاتها مع دول الجنوب العالمي، وعلى رأسها العالم العربي. ومع تصاعد العقوبات الغربية على موسكو، أصبحت منطقة الشرق الأوسط، والخليج العربي خاصة، ساحة محورية للتعاون الروسي خارج المنظومة الغربية.

الدول العربية، بدورها، اتخذت مواقف محسوبة، جمعت بين الحياد السياسي والاستفادة من الفرص الاقتصادية والتكنولوجية التي تقدمها الشراكة مع روسيا، وهو ما يتطلب دراسة معمقة لفهم طبيعة هذا التحول.

ثانياً: السياق الجيوسياسي والتاريخي للعلاقات الروسية-العربية
شهدت العلاقات بين موسكو والدول العربية تحولات متباينة منذ الحرب الباردة. إلا أن العقدين الماضيين شهدا صعودًا ملحوظًا في العلاقات السياسية والاقتصادية. الحرب السورية كانت محطة مفصلية، حيث دعمت دول عربية مثل الإمارات ومصر التوجه الروسي في سوريا بشكل ضمني، مما مهد لاحقًا لتقارب اقتصادي وسياسي مستمر.
مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، أعادت روسيا ترتيب أولوياتها الدولية، وبرزت الدول العربية كشريك رئيسي في تجاوز العزلة الغربية.

ثالثاً: مجالات التعاون الاقتصادي الروسي-العربي بعد فبراير 2022
– الطاقة
التنسيق مع الخليج، تُعد العلاقات بين موسكو والرياض مثالًا على التعاون المرن في أسواق الطاقة. فبعد تذبذب الأسعار عقب الحرب، عمل الطرفان على تعزيز اتفاقات “أوبك+” لضبط الإمدادات وتحقيق استقرار السوق. وفق تقرير من Gulf Research Center (مايو 2025)، فإن السعودية وروسيا تتبادلان المعلومات التقنية وتدرسان مشاريع مشتركة في مجال الطاقة المتجددة.

– التبادل التجاري والاستثمارات
في الإمارات، بلغ التبادل التجاري مع روسيا أكثر من 9 مليارات دولار في 2024، مع تسجيل أكثر من 4500 شركة روسية مسجلة في الإمارات، بحسب تقرير وزارة الاقتصاد الإماراتية (أبريل 2025). ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 6,000 شركة بنهاية العام.

– الأمن الغذائي والزراعة
تُعد روسيا من أكبر مصدّري القمح إلى العالم العربي، وبخاصة مصر والجزائر والسودان. وتستفيد هذه الدول من اتفاقيات تفضيلية مع موسكو، رغم تعطل بعض الشحنات بسبب الحرب. تسعى روسيا إلى فتح ممرات بحرية بديلة عبر البحر الأسود لتفادي الضغط الغربي على اللوجستيات.

رابعاً: التحالفات السياسية والدبلوماسية
*مواقف الدول العربية من الحرب
– الخليج (السعودية، الإمارات، قطر): تتبنى هذه الدول سياسة توازن دبلوماسي. لم تنضم للعقوبات ضد روسيا، بل استمرت في تعزيز العلاقات الاقتصادية.

– مصر والجزائر: تعتبر روسيا شريكًا استراتيجيًا في الدفاع والطاقة. رفضت القاهرة والجزائر تبني خطاب معادٍ لروسيا في المحافل الدولية.

– دول المشرق العربي (لبنان، سوريا، العراق): العلاقات وثيقة، وخاصة في المجال العسكري والتقني.

*روسيا كقوة توازن في الشرق الأوسط
ترى بعض الدول العربية في موسكو قوة موازية للنفوذ الأمريكي، وهو ما يمنحها مساحة تفاوضية أوسع في ملفات مثل إيران، اليمن، وسوريا. وفق تحليل معهد الشرق الأوسط (MEI، مايو 2025)، فإن روسيا تستثمر سياسيًا في الحفاظ على موقعها كشريك دبلوماسي موثوق.

خامساً: التحديات التي تواجه التعاون الروسي العربي
العقوبات الغربية: تؤثر على آليات الدفع والتحويلات البنكية بين الطرفين، ما دفع إلى التفكير في استخدام العملات المحلية أو العملات الرقمية.

تقلبات الشحن والنقل: نتيجة تهديدات الملاحة في البحر الأسود، والتي أثرت على حركة التجارة الزراعية بشكل خاص.
الضغط الدبلوماسي الأمريكي: محاولات واشنطن للضغط على العواصم الخليجية لتقليص العلاقات مع روسيا.

سادساً: آفاق التعاون المستقبلي
– الأمن الغذائي والتكنولوجي
تسعى روسيا لتصدير تقنياتها الزراعية إلى الدول العربية، بما في ذلك أنظمة الري الذكية والمبيدات البيولوجية. كما يتم التفاوض على بناء مراكز بحث زراعي روسية-عربية مشتركة في مصر والسودان.

– الطاقة النووية والفضاء
شركة روساتوم الروسية نشطة في مصر من خلال مشروع الضبعة النووي، وهناك محادثات لافتتاح مشاريع مماثلة في الجزائر. كما تعزز روسيا التعاون الفضائي مع الإمارات والسعودية من خلال تدريب رواد الفضاء وتبادل الخبرات التقنية.

– النقل والبنية التحتية
تشارك شركات روسية في مشاريع سكك حديد وموانئ في الخليج وشمال إفريقيا، ضمن مبادرة طريق بحر الشمال الجديد، والذي يربط روسيا بالموانئ العربية عبر إيران والهند.

سابعاً: التوصيات الاستراتيجية
فيما يخص روسيا، توصي الدراسة بضرورة تعزيز استخدام العملات المحلية وتقنيات البلوك تشين لتجاوز العقوبات، وتقديم ضمانات استثمارية للدول العربية الراغبة في العمل داخل السوق الروسي.

أما التوصيات للدول العربية، فتتمثل بأهمية الاستفادة من الفراغ الغربي في السوق الروسي لتعزيز الصادرات الزراعية والصناعية، وتطوير مذكرات تفاهم طويلة الأجل في مجالات الأمن الغذائي والطاقة.

ثامناً: خاتمة
يعكس استمرار الصراع الروسي الأوكراني تحولًا استراتيجيًا في أولويات السياسة الخارجية الروسية نحو الجنوب العالمي، وعلى رأسه العالم العربي. وبينما تسعى روسيا لكسر عزلتها الغربية، تجد في الشراكة العربية فرصة اقتصادية واستراتيجية. وفي المقابل، ترى الدول العربية في روسيا شريكًا متوازنًا يمكن أن يسهم في تنويع العلاقات الدولية وتحقيق مصالح مشتركة تتجاوز حسابات الحرب.

المصادر:
1. Gulf Research Center. “Saudi-Russian Coordination in Energy after Ukraine.” May 2025.
2. Ministry of Economy UAE. “UAE-Russia Economic Report.” April 2025.
3. MEI – Middle East Institute. “Russia’s Influence in MENA in 2025.” May 2025.
4. Carnegie Moscow Center. “Russia’s Southward Pivot: The Arab Opportunity.” May 2025.
5. Российский Совет по Международным Делам. “Российско-арабские отношения в условиях санкционного давления.” Май 2025.

شاهد أيضاً

إيران تحت النار وإسرائيل في مرمى الرد: سيناريوهات الحرب المقبلة وتداعياتها على العالم العربي

مقدمةفي 13 يونيو 2025، دخل الصراع الإيراني – الإسرائيلي مرحلة غير مسبوقة من التصعيد، بعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *