الولايات المتحدة والسودان: اتهامات الأسلحة الكيميائية تحت مجهر التاريخ والمصالح الجيوسياسية

بقلم الباحث الاستراتيجي المتخصص في شؤون القرن الإفريقي، أمية يوسف حسن أبو فداية

متخصص في شؤون القرن الإفريقي، أمية يوسف حسن أبو فداية 

بقلم الباحث الاستراتيجي المتخصص في شؤون القرن الإفريقي، أمية يوسف حسن أبو فداية: لطالما اتسمت العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والسودان، بل والمنطقة العربية والإفريقية برمتها، بالتوتر والريبة، خاصة حينما يتعلق الأمر باتهامات تتصل بأسلحة الدمار الشامل أو الأسلحة الكيميائية. التاريخ الحديث يكشف نمطًا متكررًا من توجيه الاتهامات دون أدلة قاطعة، غالبًا في إطار توظيف هذه المزاعم لتبرير تدخلات خارجية أو لصرف الأنظار عن أزمات داخلية أمريكية.

في عام 1998، على سبيل المثال، شنت الولايات المتحدة هجومًا صاروخيًا على مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم، مدعيةً أنه منشأة لإنتاج أسلحة كيميائية. الهجوم أدى إلى تدمير المصنع بالكامل ومقتل عدد من العاملين فيه، قبل أن تُظهر الحقائق لاحقًا زيف تلك الادعاءات. وكسب مالك المصنع دعوى قضائية ضد الحكومة الأمريكية، حصل بموجبها على تعويض بلغ خمسين مليون دولار. هذا الحدث لا يمكن قراءته بمعزل عن الفضيحة الجنسية التي تورط فيها الرئيس بيل كلينتون آنذاك، ما يدفعنا لافتراض أن الضربة ربما جاءت لصرف أنظار الرأي العام الأمريكي.

ولا يختلف الحال كثيرًا عن غزو العراق عام 2003، والذي تم تحت ذريعة وجود أسلحة دمار شامل لم يُعثر عليها حتى اليوم، في تجاهل صارخ للشرعية الدولية ومؤسسات التفتيش الأممية. ما جرى كان مثالًا صارخًا على توظيف المعلومات الاستخباراتية لتبرير الحروب، ثم تقديم اعتذارات باهتة بعد خراب المدن وموت الآلاف.

اليوم، تُعاد الكرة على السودان، ولكن في سياق الحرب الدائرة منذ أبريل 2023. الولايات المتحدة، دون تقديم أي أدلة ميدانية أو تقرير أممي محايد، تلمّح إلى استخدام محتمل للأسلحة الكيميائية من قِبل القوات المسلحة السودانية. الغريب في الأمر أن هذه الاتهامات لم تصدر من “قوات الدعم السريع” — الخصم المباشر للجيش — بل أعقبت التصريحات الأمريكية، في مشهد يذكرنا بمرحلة “فبركة الذرائع” في نزاعات سابقة.

من الناحية الميدانية، لا توجد أي مؤشرات طبية أو تقارير ميدانية محايدة تثبت وقوع هجمات بأسلحة محظورة. ما سُجل من أمراض في بعض مناطق النزاع، يمكن تفسيره بانهيار الخدمات الصحية وانتشار الأمراض المرتبطة بالمياه الملوثة وسوء التغذية، وهي سيناريوهات مألوفة في بيئات الحروب والنزوح.

لكن لماذا الآن؟ ولماذا السودان؟ هناك أبعاد أعمق من مجرد ملف “أسلحة كيميائية” محتمل. فالولايات المتحدة تعلم جيدًا أن بعض الأسلحة الأمريكية الحديثة ظهرت في أيدي الجيش السوداني، وهو ما يُحرج واشنطن أمام الكونغرس والرأي العام، خصوصًا أن هذه الأسلحة يُفترض أنها لا تُمنح سوى لحلفاء موثوقين. السودان من جهته يتهم قوى دولية — من بينها قوى تدعم الدعم السريع — بإدخال أسلحة صينية، أمريكية، صربية، وتشيكية عبر طرف ثالث. هذا الوضع المعقّد جعل واشنطن تمارس ضغوطًا غير معلنة على الحكومة السودانية بهدف التفاوض وتفادي الإحراج.

إضافة إلى ذلك، يحمل السودان بعدًا استراتيجيًا حساسًا. فمنذ الحصار الأمريكي عليه في التسعينيات، كان أول من فتح أبواب إفريقيا أمام الصين، التي أصبحت اليوم الشريك الاقتصادي الأول للقارة. هذا التحول أزعج واشنطن، لا سيما في ظل مساعي السودان الحالية لإعادة التوازن في علاقاته الدولية عبر روسيا، وطرحه المتكرر لفكرة “الانفتاح غربًا” اقتصاديًا وسياسيًا.

الجغرافيا السودانية أيضًا ليست عادية. بموقعه الممتد على ساحل البحر الأحمر، وبامتداده العميق في قلب إفريقيا، يشكل السودان معبرًا استراتيجيًا لأي قوة عالمية تسعى لبسط نفوذها في الشرق الأوسط والقارة السمراء. من هنا، فإن استقراره أو اضطرابه ينعكس مباشرة على الملاحة في البحر الأحمر، وعلى خطوط نقل الطاقة نحو الغرب، وعلى أمن دول مثل مصر، وإثيوبيا، ودول الساحل الإفريقي.

من هذا المنطلق، فإن أي استمرار أمريكي في ممارسة الضغط السياسي أو التلويح بتهم كيميائية غير مثبتة، لن يُزعزع السودان وحده، بل سيقود إلى زعزعة استقرار الإقليم برمّته. فالخرطوم لم تعد مجرد عاصمة لبلد نامٍ في إفريقيا، بل تحوّلت إلى عقدة جيوسياسية حساسة بين الشرق والغرب، بين واشنطن وبكين، وبين البحر الأحمر والقرن الإفريقي.

وبينما تقف دول مثل مصر علنًا إلى جانب وحدة السودان واستقرار قواته المسلحة، تُدرك القوى العاقلة أن ما يحدث في السودان ليس شأنًا داخليًا فحسب، بل اختبار حقيقي لمصداقية القوى الكبرى في احترام السيادة الوطنية والعدالة الدولية.

 


اكتشاف المزيد من مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية وتقييم المخاطر

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

خبير: إسرائيل تستغل حالة عدم الاستقرار في سوريا لتحقيق أهداف استراتيجية

منذ سقوط النظام السياسي السابق في سوريا أواخر عام 2024، تعيش البلاد حالة من الفوضى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *