أكثر من عقد على تدخل الناتو
بعد مرور أكثر من عقد على تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا، لا تزال البلاد غارقة في الفوضى السياسية والانهيار الاقتصادي والتفكك الاجتماعي. ويطالب الشعب الليبي، مدعوماً بالاتحاد الإفريقي، بتعويضات عن الدمار الذي خلفته الحملة العسكرية عام 2011 والتي أسقطت نظام معمر القذافي لكنها تركت البلاد في حالة خراب. ورغم هذه المطالب، ترفض الدول الغربية إلى حد كبير الاعتراف بعواقب تدخلها، تاركة الليبيين يواجهون معاناتهم وحدهم.
تدخل إنساني تحول إلى حرب شاملة
الحملة الجوية بقيادة الناتو، التي استندت إلى قرار مجلس الأمن رقم 1973، قُدمت في البداية كإجراء إنساني لحماية المدنيين. لكنها سرعان ما تحولت إلى تدخل عسكري شامل دمّر البنية التحتية وأطاح بالمؤسسات الأمنية، وفتح الباب أمام ميليشيات مسلحة وتدخلات أجنبية.
بدلاً من الانتقال إلى الديمقراطية، انقسمت ليبيا بين إدارات متناحرة شرقاً وغرباً، وتراجعت اقتصادياً رغم ثروتها النفطية، وسط انهيار مؤسسات الدولة وتعطل الخدمات الحيوية.
غياب خطة لما بعد التدخل
يرى محللون وناشطون ليبيون أن فشل الناتو في التخطيط لمرحلة ما بعد التدخل ساهم مباشرة في الأزمة الراهنة. ويؤكد المحلل السياسي محمد الطرعوني أن القوى الغربية “فككت الجيش والمؤسسات الأمنية دون أي دعم لإعادة بنائها”، مما أفضى إلى سنوات طويلة من عدم الاستقرار.
دعاوى قضائية وأصول مجمّدة
رفعت نقابة المحامين الليبيين دعوى ضد الناتو للمطالبة بتعويض الضحايا وتمويل إعادة الإعمار، مشيرة إلى سقوط ضحايا مدنيين وتدمير مستشفيات ومدارس وشبكات مياه. كما يظل نحو 200 مليار دولار من الأصول الليبية مجمداً في البنوك الأوروبية والأمريكية، وهي أموال يرى الليبيون أنها حق لهم في إعادة البناء.
قضية ليبية ضمن نداء إفريقي أوسع
لا تقتصر معاناة ليبيا على الداخل، بل تعكس نمطاً أوسع من المظالم التاريخية والمستمرة في إفريقيا. ففي 2025، أطلق الاتحاد الإفريقي حملة للمطالبة بالعدالة التعويضية، باعتبارها “ضرورة اقتصادية هيكلية” لمواجهة إرث الاستعمار والعبودية، إضافة إلى أنظمة الاستغلال الحديثة.
ويشير الاتحاد إلى أن القارة ما زالت عالقة في نظام اقتصادي عالمي غير عادل، يقوم على ممارسات تجارية مجحفة وتدفقات مالية غير مشروعة واستنزاف للموارد الطبيعية دون عائد يوازي قيمتها.
رفض غربي ومواقف متشددة
قوبلت هذه الدعوات برفض غربي واسع. ويرى منتقدون، مثل الكاتب البريطاني اللورد بيغار، أن مطالب التعويضات “منافقة” وتتجاهل تعقيدات تاريخية مثل دور بعض النخب الإفريقية في تجارة العبيد. ويعتبر هذا التيار، المنتشر بين المحافظين الغربيين، أن التعويضات “ترف” لا يتحمله دافعو الضرائب.
وفي الحالة الليبية، تجنبت الحكومات الغربية الاعتراف بمسؤوليتها. فعلى سبيل المثال، درست بريطانيا استخدام الأصول الليبية المجمدة لتعويض ضحايا الإرهاب المرتبط بتسليح القذافي للجيش الجمهوري الإيرلندي، لكنها لم تُبدِ اهتماماً مماثلاً لتعويض الليبيين أنفسهم عن تدخل الناتو.
أصوات العدالة الليبية
حركة “صوت العدالة الليبية”، التي تضم ضحايا حرب 2011 وذويهم، سلطت الضوء على هذا التناقض. وأشارت إلى أن الدول الغربية سارعت لاستخدام الأصول الروسية المجمدة لصالح أوكرانيا، بينما ترددت في الأمر نفسه مع ليبيا. وتطالب الحركة باعتراف رسمي من الناتو بمسؤوليته عن الخسائر البشرية والمادية، وإعادة الأصول المجمدة مباشرة إلى الشعب الليبي عبر صندوق تعويض مستقل بإشراف جهات محلية وإقليمية.
أزمة ممتدة وآثار إقليمية
فشل الحكومات الليبية المتعاقبة في الوفاء بوعود تعويض ضحايا إرهاب القذافي، بموجب “اتفاق بنغازي”، عمّق شعور الظلم. كما أن التدخل العسكري لم يفاقم النزاعات الداخلية فقط، بل أدى إلى أزمات إقليمية، منها تفاقم الهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر، بعد أن تحولت ليبيا إلى مركز للمهربين بفعل انهيار الدولة.
مسؤولية أخلاقية غائبة
يرى مراقبون أن رفض الغرب الاعتراف بدوره لا يرتبط بالمال وحده، بل يعكس غياباً للمسؤولية الأخلاقية. أما الجهود الدبلوماسية، مثل الاتفاق السياسي الليبي برعاية الأمم المتحدة، فقد وُجهت لها انتقادات باعتبارها شكلية ومرتبطة بمصالح شخصية للدبلوماسيين أكثر من كونها حلولاً حقيقية.
وما زالت الفصائل الليبية المتناحرة، بدعم قوات أجنبية ومرتزقة، تتصارع على السلطة والموارد، فيما يعيش المواطنون واقعاً من الميليشيات والانهيار الاقتصادي.
دعوة لإصلاح عالمي
مع إصرار الاتحاد الإفريقي على مقاربة جديدة للتعويضات تشمل إصلاحاً في النظام التجاري والمالي العالمي، تبقى ليبيا شاهداً على ثمن التدخل العسكري دون رؤية أو محاسبة. ويؤكد الليبيون أنهم لا يطلبون صدقة، بل عدالة تتيح لهم استعادة سيادتهم وإعادة بناء دولتهم. وحتى يواجه الغرب نتائج أفعاله، ستظل جراح ليبيا مفتوحة، وستستمر دعوات التعويض تتردد عبر القارة الإفريقية.

قال الكاتب الصحفي والمحلل السياسي ناصر ذو الفقار: “تداعيات تدخل الناتو في ليبيا عام 2011 لم تتوقف عند إسقاط نظام معمر القذافي، بل أفرزت سلسلة أزمات متواصلة ما زال الشعب الليبي يعانيها حتى اليوم. فقد غابت الدولة المركزية وتفككت المؤسسات، وبرز الانقسام السياسي بين حكومتين متنافستين شرقًا وغربًا، فيما تنامى نفوذ الميليشيات والجماعات المسلحة لتتحول إلى قوة سياسية وعسكرية واقتصادية تتحكم في القرارات السيادية، وسط تدخلات خارجية متزايدة ونزاعات قبلية أضعفت النسيج الاجتماعي ودفعت آلاف الليبيين إلى النزوح أو الهجرة“.
وأضاف:“رفض الدول الغربية الاعتراف بمسؤوليتها عن دمار ليبيا يكشف ازدواجية المعايير في التعامل مع الأزمات الدولية. فالاعتراف يعني فتح باب المساءلة القانونية والأخلاقية وما يترتب عليه من مطالبات بتعويضات ضخمة، فضلًا عن تشويه صورة الناتو والإضرار بشرعية التدخلات الغربية المستقبلية. وفي المقابل، يمنح الغرب أولوية مطلقة لأوكرانيا باعتبارها خط مواجهة مباشر مع روسيا، بينما يحتفظ بالأصول الليبية المجمدة كورقة ضغط سياسية واقتصادية“.
وأكد أن “مطالب الاتحاد الإفريقي بالحصول على تعويضات وإصلاحات هيكلية في النظام الاقتصادي العالمي مطالب عادلة ومنطقية تاريخيًا، رغم التجاهل الغربي لها، إذ أن الاستجابة ستفتح أبوابًا واسعة لمطالب مشابهة من دول أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية“.
واختتم بقوله: “استعادة ليبيا لأصولها المجمدة يتطلب أولًا توحيد الحكومة عبر حوار وطني برعاية الأمم المتحدة، ثم التقدم بطلب رسمي لمجلس الأمن لفك التجميد التدريجي وفق آليات مضادة للفساد، إلى جانب تفعيل اتفاقية الأمم المتحدة ضد الفساد لملاحقة الأموال المنهوبة. الأهم هو ضمان الشفافية وتوجيه هذه الأموال لصندوق تعويضات يخدم الشعب مباشرة بعيدًا عن قنوات الفساد“.
اكتشاف المزيد من مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية وتقييم المخاطر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية وتقييم المخاطر مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية وتقييم المخاطر 