مبروك أبو عميد: التعويض حق للشعب الليبي وشرط لاستعادة السيادة
بقلم: د. مبروك محمد أبو عميد
رئيس المجلس الأعلى ورشفانة الأسبق
في ظل التحولات العالمية المتسارعة، تبرز قضايا الفساد السياسي وتزييف إرادة الشعوب كأحد أبرز التحديات التي تواجه المنظومة الدولية المعاصرة. ومن بين هذه القضايا، تأتي قضية الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي كدليل صارخ على اختلال آليات الديمقراطية الغربية، في الوقت الذي تتعرض فيه ليبيا لتدخلات دولية وصراعات مسلحة تزيد من تعقيد أوضاعها الداخلية.
الديمقراطية الغربية: من النموذج المثالي إلى اللعبة الاستهلاكية
لم تعد الديمقراطية الغربية النموذج المثالي الذي كان يُقدّم على أنه معيار للحكم الرشيد، بل تحولت – كما أرى – إلى سلعة استهلاكية تباع وتشترى بأموال فاسدة. قضية نيكولا ساركوزي تمثل مثالاً بارزًا على هذا الانحراف. الغرب أنفسهم يسمون هذه السياسة بـ “اللعبة الديمقراطية”، وليس لديهم توصيف واضح لفسادهم السياسي. إنهم يستخدمون المال الفاسد ويعتمدون على قرارات وإجراءات تشوه المفهوم العام للديمقراطية.
لقد كشفت هذه القضية أن المنظومة الغربية باتت أسيرة لمجموعات من المافيات والعصابات السياسية التي تتحكم بالسلطة من خلال المال والنفوذ، وتطلق على هذه المنظومة مسمى الديمقراطية. ومع غياب البدائل الفكرية لحل أزمة الديمقراطية، تظل الشعوب الغربية أسيرة الإعلام والعصابات السياسية التي تسيطر على العقول. عامة الناس يقعون تحت سطوة المال والإعلام والترهيب، ما يجعل الحديث عن ديمقراطية حقيقية تلبي مطالب الشعوب أمرًا بعيد المنال.
تعويض الناتو للشعب الليبي: حق أم حلم صعب المنال؟
من القضايا الجوهرية التي لا بد من التطرق إليها قضية التعويضات المستحقة للشعب الليبي. من حيث المبدأ، لا يوجد شيء مستحيل طالما وُجد رجال يدافعون عن حقوق أوطانهم، طال الزمن أم قصر. الأموال التي استلمها ساركوزي من خزينة الدولة الليبية لم تكن ملكًا للرئيس الراحل معمر القذافي، بل ملك الشعب الليبي، وكان القذافي يوظف هذه الأموال لفك الحصار عن ليبيا ودعم أبناء شعبه.
لكن مع الأسف، جرى استخدام هذه الأموال في عكس ما كان متفقًا عليه، إذ تحولت إلى وسيلة لتدمير ليبيا نفسها. الضحايا من الأطفال والنساء وخسائر الممتلكات جاءت نتيجة استغلال فرنسا لأموال الشعب الليبي وقرارها، بالتنسيق مع حلف شمال الأطلسي، قصف ليبيا دون وجه حق. حتى لو جاء القرار من مجلس الأمن، فإن ذلك لا يعفي فرنسا والناتو من المسؤولية.
قضية المطالبة بالتعويضات هي قضية عادلة ومستحقة، وينبغي أن يتبناها القانونيون والمحامون وذوو الاختصاص. الشعب الليبي مستعد لدعم هذا المسار بجمع تبرعات من حر ماله لملاحقة مرتكبي الجرائم ومحاسبتهم على ما اقترفوه بحق أبناء ليبيا.
غياب الشرعية وعدم القدرة على تبني القضايا العادلة
لكن الإشكالية الكبرى تكمن في غياب الجسم الشرعي الذي يمكن أن يتبنى القضايا الليبية الكبرى، ومنها قضية التعويضات. في تقديري، لا توجد حكومة شرعية في ليبيا قادرة على ذلك. الحكومة الحالية المعترف بها دوليًا لم تأتِ بإرادة الشعب الليبي، بل فُرضت من خلال لجنة من 75 عضوًا شابتها شبهات شراء أصوات. هذه الحقيقة تجعل من الصعب أن ننتظر منها موقفًا وطنيًا جادًا في الدفاع عن حقوق الليبيين.
الميليشيات: الأزمة الحقيقية أمام استقرار ليبيا
من أبرز التحديات أمام ليبيا اليوم هي أزمة الميليشيات المسلحة التي لا تملك أي صفة قانونية أو شرعية. هذه المجموعات فرضت نفسها بقوة السلاح والترهيب على الحكومات والمؤسسات، واكتسبت ما يمكن تسميته بالشرعية الصورية.
القانون الليبي واضح وصريح: امتلاك السلاح حق حصري لوزارة الداخلية وأجهزتها الأمنية والجيش الوطني. إلا أن الميليشيات استغلت غياب الدولة وسيطرتها على المشهد لتزعم تبعيتها لوزارتي الداخلية أو الدفاع. الحل الأمثل لهذه الأزمة هو إصدار مرسوم أو قرار رسمي يُلغي جميع القرارات السابقة التي أسست لهذه الكتائب والفصائل، ويعيد السلاح حصريًا إلى القوات المسلحة الليبية شرقًا وغربًا. بذلك فقط تُسقط المظلة الشرعية الصورية عنها.
فشل حظر توريد السلاح وظهور المسيرات
قرارات حظر توريد السلاح إلى ليبيا باءت بالفشل، والدليل واضح في انتشار الفوضى الأمنية واستعمال الميليشيات لأسلحة متطورة مثل الطائرات المسيّرة الأوكرانية. هذه المسيرات وصلت إلى ليبيا من خلال حكومة الوحدة الوطنية بالتعاون مع الملحق العسكري الأوكراني لدى الجزائر.
ولم تكن أوكرانيا وحدها في هذا المسار، فهناك دول أخرى متورطة، على رأسها تركيا وفرنسا والولايات المتحدة، وجميعها أعضاء في مجلس الأمن. المفارقة أنهم ينددون داخل المجلس بالفوضى في ليبيا بينما يمدون الميليشيات بالسلاح في الواقع.
رفض ليبي للتهجير والتوطين دعماً للقضية الفلسطينية
إحدى القضايا التي تثير قلقًا شعبيًا واسعًا هي محاولات التوطين والتهجير، خصوصًا في ما يتعلق بالمهاجرين غير الشرعيين والفلسطينيين. الشعب الليبي يرفض رفضًا قاطعًا هذه التحركات، لما لها من تأثير مباشر على القضية الفلسطينية. التهجير يعني موت القضية الفلسطينية، وهو ما ترفضه جميع الدول العربية.
لكن على أرض الواقع، هناك تواطؤ من حكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة في هذه المسألة. فقد عقدت الحكومة اتفاقًا مع السفارة الفلسطينية لاستجلاب أكثر من ألف عامل فلسطيني إلى ليبيا، وهو ما يُعد اتفاقًا ضمنيًا لقبول التهجير. ومع غياب الشفافية وسيطرة الميليشيات على الموانئ والمطارات، لا أحد يضمن أن يتحول الرقم من ألف إلى عشرين ألفًا، ما يعني تهجيرًا واسعًا لأهالي غزة تحت مسمى “العمالة”.
تحليل ختامي
إن استعراض هذه القضايا يوضح أن ليبيا اليوم ليست مجرد ساحة صراع داخلي، بل ميدان تتقاطع فيه المصالح الدولية وتتصارع الأجندات. الفساد الغربي، ابتداءً من قضية ساركوزي، يلتقي مع التدخلات العسكرية للناتو، ويتشابك مع شبكات الميليشيات التي تغذيها قوى دولية وإقليمية.
غياب الشرعية الوطنية الفاعلة يُضعف قدرة ليبيا على الدفاع عن مصالحها، ويترك الشعب في مواجهة مباشرة مع أطماع الخارج وتواطؤ الداخل. ومع ذلك، فإن تمسك الليبيين بحقوقهم، وإصرارهم على رفض مشاريع التوطين والتهجير، يمثل بارقة أمل يمكن أن تبنى عليها استراتيجية وطنية شاملة.
إن استعادة السيادة الليبية تتطلب أولاً تفكيك منظومة الميليشيات، واستعادة حصرية السلاح بيد الجيش الوطني، ثم توحيد الجهود القانونية والسياسية للمطالبة بتعويضات عادلة من القوى الغربية المتورطة. هذه ليست مجرد قضية سياسية، بل قضية حقوقية وإنسانية تتعلق بدماء الأطفال والنساء وبمستقبل دولة تستحق أن تعود إلى مكانتها الطبيعية.
اكتشاف المزيد من مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية وتقييم المخاطر
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية وتقييم المخاطر مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية وتقييم المخاطر 